غموض «الغرفة الخضراء»

غموض «الغرفة الخضراء»
غموض «الغرفة الخضراء»

ليس للغرفة الخضراء green room، حسب التسمية الإنجليزية، أو الصالة الخضراء salle verte حسب التسمية الفرنسية، وجود رسمي في منظمة التجارة العالمية ولا هي مُدرجة في آلية عمل المنظمة، لكن على الرغم مِن ذلك فقد فرضت هذه الغرفة وجودها حتى أصبحت الاجتماعات التي تحتضنها تلعب دوراً حاسماً في اتخاذ القرارات الصعبة في مفاوضات المنظمة بالغة التعقيد.
تقع هذه الغرفة، بطاولتها البيضوية الضخمة، وكراسيها ذات الجلد الأخضر الغامق، وستائرها الخضراء السميكة، ومكتبتها مِن الخشب الصاج اللامع، ولوحاتها الثمينة، في الطابق الأول مِن مبنى المنظمة التاريخي على بعد خطوات مِن مكتب الـ «دي جي» DG، وهو الاسم الذي يشتهر به المدير العام للمنظمة، اختصاراً لكلمتي «مدير عام» باللغة الإنجليزية Director General.

#2#

للغرفة طابع يكاد يكون مماثلاً للنوادي الإنجليزية الخاصة التي شهدتها أغلب المستعمرات البريطانية في القرون الماضية، وما زالت تشهدها لندن وبعض بقايا المستعمرات حتى يومنا هذا، حيث تجتمع النخبة مِن الأثرياء، والمصرفيين، ورؤساء المؤسسات، ورجال الأعمال، والسياسيين، وكِبار الجنرالات «في حينه»... للتباحث في أمور المال والاقتصاد والسياسة.
لكن تسمية «الغرفة الخضراء» جاءت أصلاً مِن تلك الغُرف، أو الصالونات، التي كانت توجد في أروقة المباني التاريخية للبرلمانات الأوروبية، خاصة في بريطانيا وفرنسا، حيث تجتمع النُخبة المؤثِّرة في المجتمع لتكون قريبة مِن مناقشات البرلمان، ومنها تمارس الضغط على البرلمانيين لاتخاذ القرارات التي تحفظ مصالحهم.
لم تكن «الغرفة الخضراء» تقرر سياسات، ولا تُشرِّع قوانين، لكنها كانت تُمارس الضغط على النواب لتشريع القوانين والأنظمة من خلال وجودها في الردهات «لوبي» lobby القريبة مِن قاعة اجتماعات النواب. ومن هنا أخذت تسمية «لوبي» معنى «الضغط» أو «جماعات الضغط».
هذا هو أيضاً شأن «الغرفة الخضراء» في منظمة التجارة، فهي الأخرى لا تقرر سياسات، ولا تُصيغ قرارات، إلا أنها تلعب دوراً حاسماً في تهيئة أجواء واتجاهات الاجتماعات الوزارية بعد أن تكون الدول الغنية قد أبرمت خلالها العديد مِن الاتفاقيات والصفقات، حيث تعجز الدول الصغيرة على الاعتراض خلال الاجتماع العام. تماماً مثلما كان يفعل أصحاب الغرف الخضراء في البرلمانات الأوروبية، فهؤلاء يضغطون على النواب، والآخرون يتخذون القرارات.
صعد نجم «الغرفة الخضراء» في منظمة التجارة بشكل لا مثيل له على مدى 11 يوماً وقعت في النصف الثاني مِن تموز (يوليو) عام 2008 عندما اختار المدير العام السابق للمنظمة، باسكال لامي، 35 وزيراً للتجارة يمثلون القوى التجارية الكُبرى في العالم للاجتماع في «الغرفة الخضراء» بهدف إعطاء دفعة جديدة لجولة مفاوضات الدوحة التي أخفقت مُنذ عام 2001 في إبرام اتفاقية تجارية عالمية تُزيل الحدود التجارية بين دول العالم.
خلال اجتماع الـ 35 وزيراً، كانَ الوزراء المُنتَخَبون يجتمعون لساعات طويلة في «الغرفة الخضراء» لبحث مصير جولة الدوحة، في حين كان ممثلو الدول الأخرى، شأنهم كشأن الصحافيين، يتوزعون في أروقة مبنى المنظمة، ومقهاه في الطابق الأرضي، ومطعمه في الطابق الرابع، وحديقته الداخلية، ينتظرون نتائج مفاوضات «الغرفة الخضراء».
ما أن كانت تنتهي واحدة مِن جولات المفاوضات في الغرفة الخضراء تحت رئاسة المدير العام، حتى ينزل الـ «دي جي» DG إلى الطابق الأرضي، حيث الصالة الرئيسة للاجتماع، ليبلغ باقي أعضاء الوفود نتائج اجتماع الـ 35.
مِن الغموض الذي يُحيط هذه الغرفة، حسبما ذُكِرَته بعض مصادر المنظمة، أنَّ بابها كان في بعض الأحيان يُغلَق مِن الداخل لمنع الانسحابات، وللضغط على المتفاوضين للوصول إلى اتفاق.
غير أنَّ الدول الأخرى التي لم تدخل الغرفة الخضراء قط، وحتى تلك التي دُعيت إليها لجلسات معينة، وجهت انتقادات لاذعة لهذا النظام مما ساعد على تقليص دورها في وقتٍ لاحق، لكنها ما زالت تلعب دوراً في المفاوضات الشاقة، وقد لعبت مثل هذا الدور في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، حيث جرت مفاوضات التحضير للمؤتمر الوزاري للمنظمة في بالي.
تنوعت أسباب الانتقادات. بعض الوفود ركَّزت على الطبيعة السرية للاجتماعات. ردَّت المنظمة بأنَّه لا توجد هناك سرية، وأن «روّاد الغرفة الخضراء» إنما يمثلون مختلف الكتل التجارية. هنا ردَّت الدول النامية «لماذا لا تحرص المنظمة على ضبط محاضر رسمية للاجتماعات؟».
 تنتقد دول أخرى طريقة عمل «الغرفة»، حيث لا يُمكن للدول المشاركة في اجتماعاتها إلا بناء على دعوة من رئيس الاجتماع، وهو المدير العام. قالت دول أخرى إنه عادة ما تجري اجتماعات «الغرفة الخضراء» بناء على مبادرة من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي بهدف تحقيق إجماع بينها.
دول أخرى أبدت خشيتها مِن إجراء الدول القائدة للتكتلات التجارية صفقات على حسابها دون الرجوع إليها، في حين انتقدت دول أخرى دعوتها لبعض هذه الاجتماعات وليس جميعها، مثلما حصل مع وزيرة التجارة السويسرية، دوريس ليوتارد، التي وجهت انتقادات شديدة للمدير العام للمنظمة.
تتعرض اجتماعات «الغرفة الخضراء» أيضاً لانتقادات المنظمات غير الحكومية، قائلة إنه عادة ما تترك الدول الأقل نمواً في دائرة الظلام خاصة ما يتعلق بصفقات ومقايضات الكتل التجارية الكبرى خلال الاجتماعات الوزارية للمنظمة.
مِن جانبها، لا ترى المنظمة عيباً كبيراً في هذا «النظام السريّ والغامض» تقريباً لاجتماعات ومفاوضات «الغرفة الخضراء»، حيث يلتقي 35 وزيراً فقط نيابة عن 159 دولة عضوا في المنظمة.
ترد المنظمة بأنها لا تملك إدارة عليا تتخذ قرارات تفرضها على الجمعية العامة مثلما هو حال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والأمم المتحدة، بل هي تعمل بموجب مبدأ الإجماع في اتخاذ القرار، حيث تتمتع كل دولة عضو بحق الفيتو، وعليه فمع وجود العشرات مِن التجمعات والتحالفات المتضاربة بين الدول الأعضاء «مِن أشهرها: G-20 ــــ الدول الكبرى ذات النفوذ ــــ وG-10 ــــ الدول الغربية المتقدمة ــــ وG-33 ــــ المجموعة الإفريقية ــــ... إلخ» ليس أمام المنظمة من خيار سوى اتِّباع إجراءات طويلة تتركز حول المشاورات الجانبية لتحقيق تسوية أو حل وسط يسمح بالوصول إلى هدف مشترك يُرضي الأطراف كافة.
تضيف أنَّ اجتماعات «الغرفة الخضراء» جاءت لـ «تسهيل» المفاوضات نحو الوصول إلى توافق في الآراء من خلال المشاورات الجانبية، حيث من المُستحيل تحقيق تقدم مع حضور الدول الأعضاء كافة.
تؤكد مصادر المنظمة أيضاً أن «الغرفة الخضراء» ليست ضد الدول النامية ولا الفقيرة، بل على العكس، فإنَّ تعاظم نفوذ «الغرفة» جاء انعكاسا لتعاظم نفوذ دول العالم الثالث في منظمة التجارة.
تقول أيضاً أنَّ دور «الغرفة الخضراء» لم يكن ملموساً في جولتيّ مفاوضات أوروجواي وكانكون، فخلال جولة أوروجواي لم يتم استخدام «الغرفة الخضراء» إلا لمرات معدودة، وأنه قبل المؤتمر الوزاري في كانكون اجتمع وفدا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الغرفة الخضراء، حيث قاما بصياغة مشروع الاتفاق، أما الآن فلا يمكن أن يتكرر في جولة الدوحة ما حصل في جولة كانكون، حيث تضم المنظمة الآن قوى تجارية كُبرى مِن الدول النامية، لها مطالبها وهذا ما يُفسر تزايد أهمية «الغرفة الخضراء» في اجتماعات تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
على الرغم من ذلك، قالت المنظمة إنها ستضمن تحقيق إعلان مسبّق عن الاجتماعات الصغيرة، وستسعى أن تكون ممثلة لجميع الكتل والمناطق، حيث لن تبقى مجموعة من البلدان خارج الاجتماعات، وأن يتولى ممثل عن البلدان النامية شرح موقف المجموعة داخل الاجتماعات الصغيرة، وسيكون هناك «نوع ما» من تقرير عن محضر الاجتماع يوزّع على الدول الأعضاء.

الأكثر قراءة