هجرة الكفاءات السعودية

الاستثمار في الإنسان والإعداد الجيد له وبناؤه البناء الأخلاقي والمعرفي والمهني السليم هدف كل الشعوب والحكومات والدول المتحضرة، وأغلبية الدول المتقدمة في فكرها وبرامجها التطويرية تكلف مكاتب متخصصة للقيام بالبحث عن الكفاءات في مختلف دول العالم، ولا يكاد يخلو مؤتمر أو حفل تخرج أو ملتقى من وجود الباحثين عن الكفاءات المتميزة لاستقطابها للعمل في البرامج التنموية في مختلف التخصصات في تلك الدول, وكان في السابق من يقوم بهذا البحث هي الشركات وليست الحكومات والدول، واليوم تغير الوضع كثيرا، بحيث أصبحت الدول بكل قطاعاتها تتسابق على استقطاب الكفاءات ومنحها مختلف الامتيازات التي تضمن انتقال تلك الكفاءات للعمل ضمن مؤسساتها، خصوصا عندما أخذ هذا العصر بثقافة بناء الإنسان والاستثمار فيه واعتباره من الطاقات الاستثمارية الاقتصادية المتجددة.
إن أهمية تطوير الكفاءات والاستثمار فيها أمر لم يعد محل نقاش أو اختلاف كما كان في السابق، خصوصا في عصر الصناعة، واليوم أصبح الحفاظ على الكفاءات والحرص على بقائها أمرا ضروريا، خصوصا مع تطور أدوات الإغراء لتلك الكفاءات وتطوير آليات وأدوات الاتصال بهم، وهذا الأمر أصبح مشاهدا بشكل كبير في السوق السعودية، خصوصا للكفاءات المتميزة في العديد من المجالات منها على سبيل المثال الأطباء ومن هم في المجال الطبي بمختلف تخصصاته، حتى المتميزون في التخصصات الطبية المساعدة أصبحوا محل نظر الباحثين من المتميزين أو ما يسمون Head Hunters ، كذلك التخصصات الهندسية أصبحت مستهدفة في السوق السعودية وأصبح المهندسون السعوديون محل استهداف لاصطيادهم للعمل في بعض دول الجوار بحيث لا يمر يوم دون أن نسمع عن مغادرة هذه الكفاءة أو تلك, كما أن رؤساء الأموال ورجال الأعمال والفكر الاستثماري الاقتصادي والصناعي والإعلامي والزراعي أصبحت رؤوسا مهاجرة تبحث عن فرص البقاء والتطوير والاستدامة والغريب أن كل تلك الرؤوس المهاجرة تستهدف الإنسان والسوق السعودية كمصدر دخل لها واستثمار وتطوير لعائداتها ومنتجاتها، وهنا يبرز خلل عظيم في البنية الاقتصادية والاستثمارية والاجتماعية، وربما في المستقبل القريب الأمنية، عندما يتحول المجتمع من مستهلك كما هو اليوم إلى مجتمع مستهلك وغير موجد لفرص العمل فتزيد أعباؤه الأسرية والمالية ويرتفع دين المواطن البسيط بسبب ارتفاع حجم مشترياته وانخفاض أو انعدام دخله، وهذا أمر بدأ يبرز بشكل واضح في السوق الاقتصادية السعودية.
الظاهرة الأخطر تجاوزت الكفاءات المدربة في العديد من المجالات بين السعوديين إلى محاولات استقطاب الكفاءات الشابة السعودية التي ما زالت في مقاعد الدراسة أو في سنتها الأولى امتياز أو سنتها الأولى عمل وفي الأغلب مثل هذه الكفاءات تكون تحت مجهر الباحثين عن الكفاءات Head Hunters. والهدف من استقطاب مثل هذه الكفاءات الشابة سببان: الأول انخفاض تكاليفها والآخر ضمان الولاء والانتماء للدول الخليجية مثلا التي تقوم باستقطابهم وتضييق فرصة تخلي تلك الكفاءات عن الدول التي استقطبتهم، والشواهد في هذا المجال كثيرة ومن أهمها ما يلاحظ من وجود الباحثين عن الكفاءات السعودية الشابة في أيام التخرج سواء داخل المملكة أو خارجها.
حفلات التخرج التي تقيمها الملحقيات السعودية أو الجامعات العالمية تزخر بعدد كبير من ممثلي تلك الدول الباحثين عن الكفاءات السعودية وتعمل على إغرائها بالمال والامتيازات الأخرى مع التأكيد على المساحة التي تعطى للكفاءة للتواصل مع أهله في السعودية أو نقلهم مع كل التسهيلات إلى الدول المستقطبة، ولو التفتنا وسألنا أنفسنا عن العديد من الكفاءات التي كنا نعرفها ونتعامل معها ثم اختفت فجأة من بعض مستشفياتنا الحكومية والخاصة ومن مشاريعنا وغيرها لوجدنا الجواب الشافي أين ذهبت وأين تعمل ولماذا.
لماذا؟ سؤال يجب أن نقف عنده كثيرا ونعمل على فهم أسباب هذه الهجرة السعودية للكفاءات، وإذا كنا نقول في السابق إن هذا أمر غير دقيق أو غير مؤثر فإننا اليوم يجب أن نعيد النظر في نظرتنا القاصرة لهذه الحقيقة ويلتفت كل واحد منا حوله ويسأل نفسه كم أعرف كفاءة سعودية لم تعد بيننا وأصبحت في حكم المهاجرين؟ وكذلك كم كفاءة سعودية تستعد للهجرة أو تفكر فيها ولا يجعلنا غرورنا أو ثقتنا الزائدة بأنفسنا تغيب هذه الحقيقة المتمثلة في هجرة العقول والكفاءات والأموال السعودية خارج الوطن, يجب أن نعرف الأسباب وبكل شفافية ثم نضع العلاج وبكل مصداقية. ولهذا الأمر عودة - إن شاء الله - في مقالات قادمة. وفق الله من يعمل من أجل وطن سعودي الانتماء, عربي اللسان, إسلامي المعتقد وعالمي الطموح.

وقفة تأمل:
«محمد سيد الكونين والثقلين
والفريقين من عرب ومن عجم
نبينا الآمر الناهي فلا أحد
أبر في قول لا منه ولا نعم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته
لكل هول من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به
مستمسكون بحبل غير منفصم»

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي