يرحل الأفراد وتبقى المؤسسات
نفرح إذا عُين عندنا مسؤول "قوي أمين" يدير إحدى مؤسساتنا الحكومية أو الخاصة، ونبارك لبعضنا البعض هذا الحدث، ونلهج بالدعاء أن يوفق الله هذا "المسؤول" لتحقيق رسالته الوطنية، متشوقين إلى مبادرات التغيير من جانبه، إلا أن الفرح مع مرور الوقت يأخذ في الانكماش، فيتصاعد مقابله شعور بالقلق، لمجرد أننا فكرنا في "مصير" المؤسسة المدارة بعد رحيل "قائدها" المتميز.
يأتي "وزير" أو "رئيس تنفيذي" مخلص وكفؤ، فيقلب كيان المؤسسة رأسا على عقب، يعيد هيكلتها، ويعيد هندسة إجراءاتها، يرفع من مستوى رضا العملاء والموظفين، لكن ما الذي يضمن أن كل هذا "التغيير الإيجابي" لن يتعرض إلى "تغيير مضاد" يعيد كل "الإنجازات المحرزة" إلى نقطة الصفر، ويؤدي إلى هدر في الجهود والموارد؟
لماذا لا تتراكم "التجارب الإدارية" في مؤسساتنا السعودية، ولماذا يضطر كل قائد جديد إلى هدم كل ما بُني في عهد سلفه، وإعادة بنائه من جديد؟ أهي مؤسسات راسخة أم قصور واهنة من الرمال يبددها الموج؟ من سيحمي مبادرات وبرامج وزارتي العمل والتجارة بعد ترك الوزيرين الحاليين منصبيهما؟ الأنظمة (القوانين)؟ حتى هي من يضمن أنها لن تتغير؟ من سيحمي الشركات، وخاصة الشركات العائلية من الانهيار بعد رحيل "الأب المؤسس"؟ ما الضمانات التي تحمي كيانها من انقسامات "الملاك الجدد"؟
سعوديا، لا توجد أية ضمانات تحمي تراكم المكتسبات، بل الغريب أن بعض هذه "المكتسبات الإدارية" يسهل طمسها أو محوها أو القضاء عليها (لأنها ارتبطت بأسماء مميزة!)، في حين أن "العقبات الإدارية" لا تتزحزح بسهولة، وربما يتطلب الأمر قدوم ورحيل أكثر من مسؤول لتذليلها بصورة تامة!
معظم المؤسسات عندنا لا ينطبق عليها وصف "مؤسسة" لأنها تفتقر إلى العمل المؤسسي، ولذا يمكن أن توصف بمجرد "تجمع" من الأفراد، تتشكل في نهجها حسب شخصية "قائدها" وأسلوبه الإداري، فإن كان القائد "ضعيفا" وصفت بالضعف، وإذا كان قائدها قويا كانت كذلك.
بخلاف الفرد العربي، نلاحظ أن الفرد الغربي لا يشغل نفسه بـ "من" سيأتي على رأس هذا الكيان أو ذاك، لأنه واثق بأن دولته القائمة على المؤسسات تضمن شغل المناصب بالأكفاء، وتتجنب تعيين أصحاب الشبهات، وبالتالي يركز الغربي على "ماذا" ستقدم لنا المؤسسة؟ لأن سؤال "من" الذي يدير المؤسسة سؤال مفروغ منه.
لننظر إلى مستشفى "جونز هوبكنز" في الولايات المتحدة، هل تعرفون من هو مدير هذا المستشفى الشهير؟ لا أحد يعلم، ولا أحد يريد أن يعلم، لأن المهم "ماذا" ستقدم هذه المؤسسة الطبية؟ ولهذا لا أحد يشعر بالقلق لأن "الثقة" موجودة بمستوى جودة الرعاية الطبية بغض النظر عن هوية القائمين على هذه المؤسسة العريقة.
سعوديا، سيتبادر إلى أذهاننا قلة من "المؤسسات" الناجحة من بينها "مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث"، وهو مؤسسة عامة استطاعت على مدى أربعة عقود أن تبني "منظومة" كاملة، لم تتغير بقدوم أو رحيل المسؤولين.
هل يمكن أن نقارن "المستشفى التخصصي" بما يضم من كفاءات سعودية وأجنبية، وبما يملك من سياسات وإجراءات ومعايير أداء تكفل أعلى مستويات الخدمة الطبية، بمستشفيات وزارة الصحة المتدهورة والمزدحمة؟ ولماذا نتدخل أحيانا ـــ لأسباب شخصية ـــ ونعبث بتجاربنا الإدارية الناجحة؟
إن ترسيخ أسس العمل المؤسسي يتم من خلال بناء "منظومة" system داخل المؤسسة التي نديرها، بحيث لا تتأثر بمغادرة القائد أو المديرين، وهذا ما نجح في تحقيقه الغربيون، فكل شيء معد ومرسوم سلفا، وما على القائد الجديد إلا أن يضيف "لبنة" جديدة إلى "المبنى" بدلا من أن يهدم المبنى، ويعيد بناءه من جديد كعادة العرب!
وإذا أراد "القائد" أن يحافظ فعلا على تراكم التجارب الإدارية من بعده، فعليه أن يعمد إلى بناء "منظومة" متماسكة وفاعلة تتحكم بالمدخلات (الموارد البشرية، المالية، المادية، المعلوماتية)، وتعالجها من خلال العمليات الإدارية (تخطيط، تنظيم، توظيف، توجيه، رقابة) من أجل الحصول على المخرجات (أي تحقيق أهداف المؤسسة من خلال توفير الخدمات أو المنتجات المطلوبة).
كما أننا نلاحظ عند دراسة المؤسسات الناجحة في الغرب والشرق، أن "القائد المؤسس" نجح في ضمان استمرارية المؤسسة على نهج ثابت من خلال غرس "القيم الأساسية"، وهذه القيم تشكل "عقيدة" المؤسسة، وتميز "سلوك" كل مؤسسة عن الأخرى، وتخدم هذه القيم رؤية المؤسسة ورسالتها، ولذلك تراعى عند صياغة السياسات ووضع الإجراءات ومعايير الأداء، وتراعى كذلك عند عملية اتخاذ القرارات في المؤسسة، وكل هذا يظهر عند التعامل مع عملاء المؤسسة وموظفها.
وجود هذه القيم (مثل: الجودة، السلامة، خدمة العملاء، النزاهة، الابتكار، التعاون)، التي يفضل ألا تزيد على خمس، يسهم في بناء ثقافة إدارية، والحفاظ عليها، بحيث لا تتأثر أو تتغير مع تغير الأفراد.
لهذا، نتساءل: لماذا لا يلزم "مجلس الوزراء" الوزارات والأجهزة الحكومية بأن تضع لكياناتها رؤية ورسالة وقيما أساسية ترشدها إلى المسار الصحيح، بجانب توفير العناصر الأخرى التي تكفل العمل المؤسسي وتحميه من العبث الإداري؟