جورج براك .. الفنان الذي عاش في ظل بيكاسو

جورج براك .. الفنان الذي عاش في ظل بيكاسو
جورج براك .. الفنان الذي عاش في ظل بيكاسو
جورج براك .. الفنان الذي عاش في ظل بيكاسو

كان أحد رواد الحركة الفنية التكعيبية مع بيكاسو ودالي، وكان من الفنانين القلائل الذين نُظمت لهم مراسم جنائزية وطنية في فرنسا.

لكن الرسام جورج براك كان الغائب الأكبر من الحراكات الثقافية التي عرفتها العاصمة باريس ومنذ آخر معرض استعادي نُظم تكريماً له عام 1977 في متحف ''لونجوريه''، وكذا المعرض الذي نظمه متحف الموما "موزيوم أوف مودرن آرت" بنيويورك عام 1989 بعنوان: ''بيكاسو وبراك رواد الفن التكعيبي''، وقعت سيرته وأعماله في غياهب النسيان.

متحف ''لوغران بالي'' قرر أن يعيد له الاعتبار بعرض أكثر من 238 قطعة من أعماله من لوحات وتماثيل ورسوم، مركزا على فضل الفنان الفرنسي في التأسيس للحركة الفنية التكعبية. التكريم سينتقل بعده إلى متحف واشنطن في معرض ''براك والطبيعية التكعيبية الميّتة'' إلى غاية أيلول (سبتمبر) 2014.

تشرح بريجيت ِلآل المسؤولة عن معرض براك: "سيرته الفنية ارتبطت بسيرة زميله بيكاسو لكن حظه من الشهرة والاعتراف بالجميل كان أقل".

قبل أن تضيف "بيكاسو كان يجلب الاهتمام بأسلوب حياته الصاخب وبورتريهات عشيقاته اللواتي كان يرسمهن. سلفادور دالي كان يثير الجدل بلوحاته التي تحمل إشارات قوية للجنس، أما براك فكان يرسم الجمال ببساطة شديدة وكان لا يهتم بالشهرة ولا يسعى وراءها".

الناقد الفني الأمريكي ويليم روبين كان يقول عنه هو عبقري مثل بيكاسو لكنه كان عبقريا ساكتا.

بدأ الرسم هاويا وكان من أصول اجتماعية وضيعة، ولم يتوقع يوما أن يكون له شأن عظيم في مجال الفن، لكنه أدرك حقيقة موهبته حين رأى أن أعماله المعروضة في صالون الرسامين الأحرار عام 1907، حازت الإعجاب وبيعت بالكامل، معترفا في الوقت نفسه بأن أعمال الفنان سيزان التي اكتشفها في السنة نفسها، أثرت كثيراً في تصّوره الفني، حيث كتب لصديقه إيميل برنار يقول: ''سيزان تملّك روحي، اكتشاف أعماله غيّر كل شيء بداخلي، بعد سيزان كل ثوابتي الفنية تغيرت رأسا على عقب".

براك وبيكاسو صداقة ومنافسة

لأول وهلة، لا شيء سوى حب الفن كان يجمع جورج براك وبيكاسو. فشخصيتا الرجلين مختلفتان تماماً بل متناقضتان. الأول كان شديد التحفظ، هادئ الطباع معتدل وقليل الكلام، بينما بيكاسو كان منفتحا انبساطيا كثير الكلام يحب الظهور والتباهي.

#2#

عن شخصيتي الاثنين كان صديقهما المشترك الكاتب جون بولهان يقول: ''كان براك يقطن معنا في الحي نفسه "مونمارت" وكنا نزامل الشلّة نفسها من الفنانين الشباب.. كان خجولا غالبا ما يبقى بمعزل عن الآخرين، وكان لا يحب الضوضاء ولا أحد منا كان يجرؤ على رفع التكلفة معه حتى أسميناه بالمعلم لوبترون. كما أنه لم يستغل وسامته في جذب النساء ولم يحب سوى واحدة تزوجها وبقي معها طوال حياته. أما بيكاسو فكان كثير السهر يحب رفقة النساء، تسمع قهقهاته من بعيد".

تعرف براك على بيكاسو في ورشته ''لوباتو لفوار'' بشارع مونمارت عام 1909، وكان هذا المكان ملتقى عدة فنانين شباب من مختلف الأنحاء ومنذ ذلك الوقت أصبح الفنانان لا ينفصلان عن بعضهما ويرسمان لساعات طويلة في الليل كما في النهار ويتبادلان وجهات النظر والخواطر الفنية ويسافران معاً أيضاً.

عن هذه الفترة كتب براك ما يلي: ''في تلك السنوات تحدثت أنا وبيكاسو عن أشياء كثيرة لا يستطيع أحد الحديث عنها اليوم، أشياء لن يفهمها أحد اليوم، وقد تبدو غير منطقية لكنها منحتنا آنذاك فرحة كبيرة.. كانت مغامرة أشبه بتسّلق الجبال".

أليكس دانشيف البريطاني الذي ألّف السيرة الذاتية الرسمية لبراك

"جورج براك: التحّدي الساكت" (دار نشر أزان) كتب عن هذه الفترة: ''السنوات السبع التي عاشها الفنانان في شارع مونمارت متلازمان ليل نهار أسّست لصداقة قوية لم تمحها سنوات البعد بعد ذهاب براك للحرب الأولى ثم إصابته وانسحابه في الريف الفرنسي. كانا يتراسلان كثيراً ويسألان عن بعضها بعضا وحين كان براك يحتضر مكث بيكاسو إلى جانبه حتى وافته المنية، رغم أنه كان لا يعيش في فرنسا في تلك الفترة''.

لكن المنافسة كانت جزءاً من هذه العلاقة أيضا خاصة بسبب شخصية بيكاسو المندفعة المغرورة، حيث ادعى مثلاً أن تقنية الملصقات التي تعلّمها من براك هي من ابتكاره، وأن براك لم يكن إلا مقلداً له حين رسم لوحاته التكعيبية. مما جعل الصحافية والناقدة الفرنسية أولفيا سينا من صحيفة "تيليراما" تكتب: ''رغم مرور 40 عاما، كان بيكاسو يرفض أن يترك شيئا لبراك لا الفن التكعيبي التحليلي ولا التركيبي''.

الفن التكعيبي من وحي بيكاسو أم براك؟

الجدل لا يزال قائماً لغاية يومنا هذا: من بيكاسو أو براك كان المؤسس الأول للفن التكعيبي؟ القضية تبدو محسومة بالنسبة لقسم كبير من مؤرخي الفن الذين يجمعون على أن الفضل يعود للإسباني بابلو بيكاسو. المُجمعة الأمريكية جرتريد شتاين التي كانت تربطها علاقة قوية ببيكاسو ذهبت في سيرتها الذاتية لحدّ اعتبار براك كأحد تلاميذ بيكاسو.

#3#

الشيء الذي نفاه بشّدة الفنان الكبير هنري ماتيس الذي نقل لنا شهادته الناقد الفني أوجان جولاس الذي كتب: ''في ذاكرتي، براك هو أول من أنجز لوحة تكعيبية حين جلب من الجنوب الفرنسي طبيعية متوسطية، كانت تلك فعلا أول لوحة تؤسس لأصول الفن التكعيبي ونحن نعتبرها كشيء مختلف تماما"، معه أيضاً قسم آخر من النقاد "وخاصة الأمريكيين" ممن يرون أن براك كان المؤسس الأول للحركة الفنية التكعيبية والدليل أن ''ماتيس'' استعمل أول مرة عبارة ''المكعبات''عام 1908 حين شاهد لوحة براك: ''منزل في إستاك'' في معرض المجمع كاهن فيلير، وكان الرسام الفرنسي آنذاك يسير على خُطى سيزان وحين بدأ رسم لوحته عام 1907 لم يكن قد تعرف بعد على بيكاسو الذي كان في إسبانيا مع عشيقته فرناند.

ومثلها كل الأعمال التي استوحاها براك من إقامته في بلدة إستيك ''جسر في إستاك''، ''ميناء في إستاك''، ''طريق إستيك''.

الناقد الأمريكي ''ويليم روبين'' ذهب لأبعد من ذلك حين أقّر بأن الفن التكعيبي عند براك ظهر قبل ''منزل في أستيك'' أي قبل 1907 في لوحة ''الطبيعة الميتة'' التي رسمها عام 1905، والتي يعتبرها الناقد أول لوحة تكعيبية لبراك حيث إنها توحي بأشكال هندسية متقطعة.

تنقل الكاتبة دورا فاليي في كتابها المعنون: "براك.. الأعمال المنحوتة والكتالوج المعقول" ـــ "دار نشر فلاماريون" انطباعات الفنان الفرنسي حول لوحاته التكعيبية الأولى وكيف أنه فكر في التخّلي عن النموذج "لومودال" في الرسم كسابقة أولى من نوعها: ''الابتعاد جاء على دفعات حدسية.. وكان ذلك يحدث شيئا فشيئاً، لم أكن أعلم ما الذي سينتج عنه لكن في مثل هذه اللحظة أحسست أني كمن يستجيب لحتمية لا شعورية.... ''، في هذا التحول من الفن الإدراكي إلى الفن التصوري البذرة الأولى للحركة التكعيبية.

أما الناقد الفني برنار زوركار فيكتب في مؤلفه: ''براك الحياة والإنجاز - "دار نشر فلامريون": ''اختزال الفن التكعيبي في قضية جدل بين شخصين قد يبدو غير عادل.

فالفن التكعيبي كان في الواقع بالنسبة للاثنين براك وبيكاسو بمثابة إجابة للإشكالية المطروحة بخصوص بناء فضاء تصويري جديد بعيد عن الأفق المحّددة منذ عصر النهضة''.

سنوات من الحوار الإبداعي ومغامرة شّيقة شارك فيها مجموعة من الفنانين الشباب، أفضت لإعادة تصور الفن بعيدا عن المعايير الكلاسيكية ومرسية لقواعد الفن المعاصر.

الأكثر قراءة