تنويع قاعدة الاقتصاد الوطني .. ضرورة ملحة

في مجلس جمع نخبة من رجال الأعمال، دار حوار حول هموم وطن وأمل أمة؛ فاستأثر عنوان هذا المقال بالنصيب الأكبر من الحوار، وكان النقاش حول تنويع قاعدة الاقتصاد الوطني مترامياً، متشابكاً مع مفاصل أخرى مؤلمة تعاني منها خريطة الاقتصاد الوطني.
المملكة كانت ولا تزال تغذي موازناتها ونهضتها بشكل أساسي من الثروات التي تجنيها من حصاد الذهب الأسود، وشركاتنا الصناعية الكبرى تقوم على البترول ومنتجاته، وعلى مستوى مساهمته في تمويل موازنة الحكومة، لا يزال البترول ومنتجاته يمثل نصيب الأسد، حيث يساهم بنسبة تتجاوز 85 في المائة من دخل الحكومة، وتزيد هذه المساهمة إلى 93 في المائة عند احتساب البتروكيماويات معه.
هذا المخزون المتكون عبر مئات السنين مهما كثر، طبيعته النضوب، لذلك تخطط المملكة لبناء اقتصاديات مساندة تعتمد على مصادر أخرى لتكون بديلاً للنفط في تعزيز إيراداتها، هذا التخطيط للأسف لم يقابل بفعل على المستوى المأمول بل ولا حتى جزء منه، فمنذ خطة التنمية الأولى في السعودية والدعوة لتنويع مصادر الدخل قائمة، وإلى اليوم وبعد أكثر من 40 عاماً لا يزال مستوى الإيرادات غير النفطية متواضعاً، حيث لا يتجاوز 8 في المائة من إجمالي الإيرادات.
وللحق فإن الدخل من مصادر أخرى غير البترول زاد مع مرور السنين، ولكنه كنسبة من الدخل القومي لم يتغير كثيراً، وذلك بسبب زيادة المنتج من البترول من جهة وزيادة أسعاره عالمياً من جهة أخرى.
صناعات سابك تعتمد على البترول كمادة أساسية، صناعات البلاستيك والسجاد والنسيج ومواد التعبئة والتغليف وصناعات أخرى كثيرة تعتمد على المنتجات البتروكيماوية بشكل أساس، كثير من الصناعات التحويلية كذلك، كما أن كثيراً من الصناعات الأخرى استفادت من انخفاض تكلفة الطاقة كثيراً لتصنع سلعاً منافسة في الأسواق، فهي تعتمد أيضاً على البترول وانخفاض تكلفته.
سؤال متكرر في مجالس كثيرة؛ يتساءل حوله المختصون والمخلصون؛ ما هو نصيب الأجيال القادمة من هذه الثروة المستنزفة؟
يتبعه سؤال آخر؛ هل من الأفضل إبقاء الفائض من ثروتنا في باطن الأرض كمخزون طبيعي؟ أم استخراجه وبيعه وانتهاز فرصة حاجة العالم لمنتجات هذا السائل اللزج العجيب وارتفاع أسعاره؟ وهذا يحيلنا إلى استفسار نوعي حول مدى الاستفادة من هذه الأموال في تعزيز الثروات غير النفطية من جهة وحفظها للأجيال من جهة أخرى، خاصة أن معظم احتياطياتنا تستخرج من باطن الأرض وتستثمر خارجياً في أدوات لا نستفيد منها من الناحية النوعية والاستراتيجية، أما عوائدها فللأسف تقل حتى عن مستوى التضخم الذي نعاني منه.
هذا السؤال يطرح مجموعة من الإجابات؛ أبرزها: إذا لم نستثمر فوائضنا في استثمارات ذكية تجمع بين العائد والأمان والتنويع والحاجة الاستراتيجية، فبقاء النفط في باطن الأرض خير لنا من استخراجه.
تجربة النرويج أحد أبرز منتجي البترول في أوروبا والعالم، حاضرة هنا؛ فقد قررت الحكومة النرويجية عدم اعتبار الدخل من البترول كجزء من الدخل الحكومي، حيث تحوله كله للاستثمار للأجيال اللاحقة، وذلك باعتباره مصدراً غير مستقر للدخل لا يمكن الاعتماد عليه.
تنويع قاعدة الاقتصاد الوطني هي بمثابة بوليصة تأمين ضد أخطار الاعتماد على سلعة واحدة، مشكلة هذه السلعة أن معظم الصناعات الأخرى الكبرى في المملكة تدور في فلكها، ليس هذا هو الخطر الوحيد، ولكنها سلعة قابلة للنضوب، والمنافسة، وانخفاض القيمة!!
وعلى سبيل المثال؛ المملكة مهيأة لتكون الوجهة السياحية الأولى في العالم الإسلامي بوجود الحرمين الشريفين، وهي لموقعها الجغرافي مهيأة لتكون المنطقة الحرة الأنسب في المنطقة، وهي كذلك أفضل خيار لتكون منطقة الترانزيت الأولى، خاصة مطاري جدة والمدينة، ناهيك عن فرص التنويع الصناعي والتجاري والخدمي الذي يمكن أن يغير خريطة الاقتصاد المحلي للأفضل.
وزاراتنا في رأيي لم تعمل شيئاً يذكر لتحقيق هدف تنويع قاعدة الاقتصاد، والسبب في ذلك بدرجة أولى أنه ليس من أولوياتها!! وهذا ليس عيباً بحد ذاته، المشكلة أن الأولويات يضعها الوزراء أنفسهم، أو تفرضها عليهم الظروف فتتحول مهمتهم إلى كبح جماح الكوارث؛ البطالة، الغلاء، المياه، الصحة، الإسكان، الأمن الغذائي .. إلخ، الحقيقة أن هذه المهمة أكبر من الوزراء وليس لها إلا المجلس الاقتصادي الأعلى؛ وهو الآخر محاط بركام البيروقراطية، والوزراء المشغولون أنفسهم هم أعضاؤه.
كان من ضمن الحلول التي طرحت في الجلسة التي تطرقت إليها في مستهل هذا المقال أن يتم تشكيل "بوتقة تفكير" وهو ما تعارف على تسميته بـ: Think Tank، تتلخص مهمتها في إثارة المواضيع الهامة التي تحتاج إلى حلول وبرامج عمل، وتستعين بدورها بالمختصين وأصحاب الاختصاص والمسؤولين وتجمعهم معاً للوصول إلى أفكار ومشاريع وحلول خلاقة لهذه الموضوعات.
في رأيي أن هذا المقترح ليس الحل الأمثل لمشكلة عدم تنوع قاعدة الاقتصاد الوطني، لوجود الكثير من الأفكار والمقترحات والرؤى القابلة للتطبيق، وهناك الكثير من اللجان تعمل وتجتمع وتساهم بوضع الأفكار والبرامج والخطط، ولكن المشكلة عدم وجود آليات ولا سلطات للتنفيذ!!
أحد معوقات التنفيذ أن كثيراً من اللجان يتم تشكيلها للتنسيق بين الوزارات والهيئات في أمور هامة لتحقيق أهداف مشتركة، ثم تتحول عضوية هذه اللجان من الوزراء إلى الوكلاء إلى المساعدين فتنتهي بممثلين في المرتبة السابعة قليلي الخبرة والمعرفة والصلاحية.
وأذكر أنني دعيت مرة إلى ورشة عمل كان هدفها وضع أفكار ومقترحات وآليات وبرامج وخطط عمل لأحد الأهداف الاستراتيجية الهامة في إحدى الوزارات الحيوية، وبنقاشي مع مدير المشروع ذكر لي بلسانه أن المطلوب هو إثبات أن هذا الهدف تم تنفيذ المطلوب بخصوصه، وماذا بعد!! سيحفظ كما حفظ غيره!!
لو سئلت لقلت إنها مهمة وزارة الاقتصاد والتخطيط، ولكن عمل هذه الوزارة اختزل في العمل بالمكاتب الخلفية للدولة، وتنويع قاعدة الاقتصاد مهمة هجومية وليست دفاعية.
في رأيي .. لتحقيق نجاحات فعلية لتنويع قاعدة الاقتصاد نحتاج وزارة أو هيئة مختصة للتنسيق والتخطيط وتوحيد الجهود ومتابعة التنفيذ لجعل قاعدة الاقتصاد الوطني أكثر تنوعاً، والأهم أن يستقطب لها رئيس قوي أمين يستطيع أن يحوّل الحلم إلى واقع.
الخلاصة .. أن تنويع قاعدة الاقتصاد الوطني ليس مهمة وزارة أو هيئة أو مسؤول فقط؛ وإنما هو رؤية دولة، الحاجة إليه ماسة لمواصلة النمو والاستدامة والفعالية لاقتصادها ورفاهيتها، لذلك يجب أن يحظى بالاهتمام اللائق والدعم الكافي شكلاً ومضموناً ..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي