مهرجان «كان» السينمائي و«شجار» تحية كاريوكا
67 عاما، هو عُمر مهرجان "كان" السينمائي. المهرجان السنوي، الجارية فعاليته هذه الأيام، الذي يجعل من "كان" المدينة الفرنسية الوادعة، في أقصى الجنوب، مدينةً صاخبة، وقِبلةً للمشاهير والفنانين، بأزيائهم ومجوهراتهم ويخوتهم الفارهة. فضلًا عن محطات تلفزيونية وصحافية عالمية لا تفوّت تغطية هذا الحدث، في تظاهرة عالمية لا يضاهيها في الحشد والمتابعة، إلا حدثان رياضيان، هما مونديال كرة القدم، ودورة الألعاب الأولمبية. وهذا ما يجعل الكثير من رواده ومنظميه يريدونه "منطقة حرة"، بعيدة عن أي تأثير سياسي أو ثقافي خاص، إذ يقول الأديب والسينمائي الفرنسي الشهير "جون كوكتو": يعتبر مهرجان كان منطقة لا حدودية ولا سياسية. منطقة لا تملكها جهة معينة. هو عالم مصغر لما يمكن أن يكون عليه العالم الكبير، مستقبلا، إذا ما تمكن الناس من التواصل بشكل مباشر وبلغة واحدة". فهل هو كذلك، أو هل من الممكن أن يكون كذلك؟
#2#
#3#
فكرة التأسيس ومصالح فرنسا
يصف "تيري فريمو"، المسؤول عن اختيار أفلام المهرجان مهرجان كان السينمائي بقوله: "هو المكان الوحيد الذي تجتمع فيه كل أمم العالم أجمع، على ذات الأرض السينمائية لفترة 11 يوما. ويضيف: "صار شيئا أشبه ما يكون بمنظمة "الأمم المتحدة" العالمية في السينما".
ولكن هذا التشبيه مبالغ فيه، بحسب منتقدي المهرجان، الذين يرونه "منظمة سرية فوضوية" لها أجنداتها الإيديولوجية والمادية. فيما يرى، البعض الآخر، أنه انتهى لأن يكون سوقًا عالمية لترويج السينما الأمريكية.
وبالعودة لفكرة تأسيس المهرجان، فإنها تدعم كثيرا موقف المتعاطفين معه، حيث كان ردا لفعل سياسي عنصري "عام 1938" إثر فوز فيلم "آلهة الاستاد" للمخرجة الألمانية ليني ريفنستال بجائزة مهرجان "ألموسترا" "مهرجان فينيسيا اليوم". ما جعل وفود الدول الديمقراطية المتواجدة في المهرجان، تحتج لأن فيلم ليني "عنصري وقح"، بحد تعبيرهم، ويروج للأيديولوجية النازية الهتلرية.
ما دعا دولا مثل أمريكا وفرنسا وإنجلترا لمقاطعة المهرجان والتلويح بعدم الحضور دورة عام 1939، إذا لم يغير مهرجان فينيسيا من سياساته. وهنا تبلورت فكرة إقامة مهرجان بديل لدول "العالم الحر"، على يد "فيليب أرلينجر" المسؤول عن الجمعية الفرنسية للعلاقات الثقافية الخارجية وممثل فرنسا في ذلك المهرجان.
ولكن فكرة التأسيس النابعة من رد فعل "حر" تجاه عمل "عنصري نازي وقح" لا يجب أن تنسينا أن الأمور الإجرائية والتنظيمية آلت لتكون بيد الخارجية الفرنسية وهو ما سيتضح تأثيره لاحقًا على أعمال المهرجان. فبدعوى الحفاظ على "المصالح السياسية الفرنسية" كان جهاز الرقابة يتدخل في أعمال المهرجان ومن ذلك أنه في عام 1953، طالبت الرقابة المخرجين الفرنسيين آلان رينيه وكريس ماركر أن يحذفا بعض المشاهد من فيلمهما "والتماثيل تموت أيضا" من النوع الوثائقي لأنه مناهض للإمبريالية، فرفضا، وسحبا الفيلم من المسابقة.
وفي عام 1956 تدخلت الرقابة مرة ثانية ومنعت عرض فيلم آلان رينيه الوثائقي "ليل وضباب" الذي يحكي عن معسكرات الاعتقال النازية في ألمانيا بأمر من "جهات عليا"، ثم تدخلت للمرة الثالثة في فيلمه الروائي الطويل هيروشيما حبي" وحذفت منه عام 1959 بعض المشاهد حتى لا يغضب الحلفاء "الأمريكان" من الفيلم.
سينما الجنوب و«حذاء» كاريوكا
ما سبق عبارة عن تأثير سياسي، فرضته المصالح العليا للدولة، ضد السينما الروسية والصينية، تضامنًا مع الأمريكية. وهي المصالح التي بدأت في التلاشي مع ثورة الطلاب الفرنسية أيار (مايو) 68 وحرص الرئيس شارل ديجول، حينها، على الابتعاد عن تأثير السياسات الأمريكية. ولكن التأثير الذي لم يجد له الكثير من التبرير، في تلك الفترة، هو استمرار النظرة الثقافية والفنية الدونية، تجاه السينما الشرقية، بما فيها دول شرق أوروبا.
إلا أن السبعينيات الميلادية كانت علامة فارقة بإقرار ما عُرف بتظاهرة "سينما الجنوب" لعرض الأفلام القادمة من دول العالم الثالث، وفيها حصل فيلم "وقائع سنوات الجمر" للجزائري محمد الأخضر حامينا عام 1975 على سعفة "كان" الذهبية. وكان حصوله على تلك الجائزة كما قال في تأثر بالغ "أكبر دليل على الاعتراف بوجود سينما العالم الثالث".
الحضور العربي، تحديدا، لا يُذكر إلا وتُذكر معه الحادثة الشهيرة، للفنانة المصرية تحية كاريوكا. وفي هذه الحادثة، تُتوَّج كل التقاطعات الممكنة لهذا المهرجان، سياسيا وثقافيًا وفنيًا. ففي عام 1956 شاركت تحية كاريوكا عن فيلم "مصاصة الدماء" "شباب امرأة" ولكنها لاحظت مع باقي الوفد المصري المشارك إهمالا واضحا يقابله اهتمام ببقية الوفود الأخرى بمن فيهم الوفد الإسرائيلي. وحينها قررت الظهور بشكل مميز يجلب اهتمام المنظمين والحضور للوفد وبالتالي للفيلم. فاختارت كاريوكا "الملاية اللف"، للظهور أمام المصورين والصحافيين وكان لها ما أرادت إذ أحدث حضورها بهذا الزي أكبر ضجة صحافية حينها.
ولكن القصة لم يُرَد لها أن تنتهي بهذا التصرف الذكي واللطيف. ففي حفل عشاء ضمّ نجوم فيلم "مصاصة الدماء" وبطلته تحية كاريوكا إضافة لنجوم من حضور المهرجان، من بينهم النجمة الهوليوودية "سوزان هيوارد" الشهيرة. دار حوار حول القضية الفلسطينية وحول علاقات العرب مع إسرائيل. وكان أن تطاولت الممثلة الهوليوودية على العرب بتعالٍ واضح. فاندفعت تحية كاريوكا تجاهها وضربتها بالحذاء. ثم انطلقت في السباب باللغتين الفرنسية والإنجليزية، اللتين تجيدهما كاريوكا، ما استدعى تدخل الحضور لاحتواء الموقف، في حين اضطرت سوزان هيوارد لمغادرة جلسة العشاء.
المهرجان والعودة للأصل
في نقلة نوعية، تحسب للمهرجان، برأي كثير من النقاد السينمائيين، انضم الناقد السينمائي لمجلة إكسبريس"جيل جاكوب" للعمل والمشاركة في إدارة المهرجان عام 1978. ما جعل فترة الثمانينيات وما بعدها تبدو بحسب الكثيرين كحقبة ذهبية لهذا المهرجان. وهو ما عبّر عنه المنظمون، كثيرًا، في تصريحات تنبئ عن رغبة حقيقية في إظهار السينما كساحة للتبادل الثقافي السلمي بين شعوب العالم. والوقوف في وجه الظلم وقمع الحريات بكل أشكاله. فكان الاحتفاء بأفلام قد تتعارض وسياسة حكوماتها لكنها تعبّر عن وجع ومعاناة إنسانية حقيقية.
ففي هذه الدورة مثلا "67" تحضر ثلاثة أفلام تُحاكي ثلاث أزمات راهنة، سياسيا وإنسانيا، وهي على التوالي: الفيلم السوري "ماء الفضة" الذي يرصد الوضع المأساوي في سورية منذ ثلاثة أعوام ومعاناة الشعب السوري في ظل انقسام وثورة لم تخلف سوى خراب ودمار، الفيلم لأسامة محمد ويُعرض ضمن برنامج العروض الخاصة وهو -كما أكد رئيس المهرجان- يعد اختيارا رسميا رفيع المستوى. كما فرضت الأزمة الأوكرانية نفسها على المهرجان من خلال فيلم "الميدان" لسيرجي لوزنيستا الفيلم الذي يرصد الأزمة وتطوراتها في أوكرانيا من خلال رصده لما يحدث في ميدان "كييف".
وفي حضور عربي آخر لموضوع "الإسلاميين"، عُرض فيلم" تمبكتو" للموريتاني عبد الرحمن سيساكو، الحاصل على جائزة المهرجان عام 1993 عن فيلمه القصير "تشرين الأول"، وتجري أحداث " تمبكتو" في المدينة التي تحمل الاسم نفسه شمال مالي، حيث توجد التنظيمات الجهادية. ويرصد الفيلم تمبكتو التي دمرها الإرهاب بعدما أصبحت مسرحا للعمليات الجهادية.
ويتحدث سيساكو بعد عرض الفيلم وتكريمه، عن العنصر المكوّن للفيلم قائلا: "إنه عملية رجم ثنائي في إحدى قرى مالي الصغيرة "تيمبكتو". ليس لمجرد إظهار عملية الرجم، إنما لأنه لم يتكلم أحد عن ذلك". كما تكلم سيساكو عن "الحس الإنساني" لدى الجهاديين قائلا: "يكمن التعقيد في صميم كل كائن بشري، فهناك الشر كما الخير، والجهادي يشبهنا أيضا لكن حياته انقلبت رأسا على عقب". ويضيف: "برأيي، هناك إنسانية ما في نفسه".
هذه الأفلام، وغيرها الكثير، من الأفلام القادمة من مدن لا يحفل بها أحد ولا يتكلم عنها أحد، ومن عمق أفراح ومآس وتعقيدات إنسانية واجتماعية لدول متعددة وبلغات مختلفة، تجعل الكثيرين، يتجاوزون مظاهر البذخ والاستعراض البادية على قشرة المهرجان، مبشرين بالعودة إلى أصل فكرة إقامته عام 1939، حيث التفاهم والتعاون من خلال "السينما" بين شعوب العالم الحر، والوقوف معًا ضد التطرف والعنصرية. متمثلين، جميعًا، مقولة غابرييل ماركيز الشهيرة: "السينما تغير العالم". ولكن يبقى الأكيد أن هذا لن يتحقق تماما، إلا إذا ما اختبرت، أيضاً، السياسات الخارجية الفرنسية بأفلام تتعارض ورؤيتها الثقافية والسياسية عن الحريات.