جدة البلد.. من قلب السعودية إلى قلب العالم
جدة البلد أو جدة القديمة (التاريخية) تتعدد الأسماء والأزمان والمكان واحد؛ نواة جدة وقلبها النابض، الذي أرادت له هيئة السياحة والآثار بقيادة سلطان بن سلمان، وبمشاركة الملاك وأهل البلد الجداويين والكثير من الجهات المعنية في المحافظة، أن ينتعش وأن يعود ليسكن قلوب أهلها ومحبيها، بعد قطيعة فرضتها سنين من الإهمال؛ لتحصد جدة التاريخية ثمرة تضافر الجهود المخلصة ويتم اعتمادها ضمن قائمة التراث العالمي.
جدة البلد
البلد هو الاسم المحلي والمحبب لكثير ممن تربطهم بهذه البقعة من الأرض كثير من الأصول والذكريات؛ حيث حضارة "الميناء" الممتدة لألفي سنة كفيلة بأن تجعل منها مقصدًا لكثير من شعوب الأرض. كما أنها في المقابل جعلت منها جهة مفتوحة على كل الاحتمالات و"الانتظارات" التي لا يجيدها الكثيرون بقدر ما يجيدها أهل الساحل المشهورين بسماحتهم وتقبلهم لكل الأجناس والأعراق، ولجميع أنواع التعايش والتعدد الثقافي.
جدة التاريخية تعود إلى عصور ماقبل الإسلام، ولكن نقطة التحول في تاريخها - بحسب بعض المصادر - كانت في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان عندما اتخذها ميناءً لمكة المكرمة عام 26 هجري / 647 م.
وتضم جدة التاريخية عدداً من المعالم والمباني الأثرية والتراثية، مثل آثار سور جدة وحاراتها التاريخية: (حارة المظلوم، وحارة الشام، وحارة اليمن، وحارة البحر)، كما يوجد فيها عدد من المساجد التاريخية أبرزها: مسجد عثمان بن عفان، ومسجد الشافعي، ومسجد الباشا، ومسجد عكاش، ومسجد المعمار، وجامع الحنفي، إضافة إلى الأسواق التاريخية.
ولجدة التاريخية سور شهير لم يبقَ منه الكثير. قام ببنائه حسين الكردي أحد أمراء المماليك في حملته عندما اتجه ليحصن البحر الأحمر من هجمات البرتغاليين فشرع بتزويده بالقلاع والأبراج والمدافع لصد السفن الحربية التي تغير على المدينة كما أحاطه من الخارج بخندق زيادة في تحصين المدينة. وبمساعدة أهالي جدة تم بناء السور الذي كان له بابان فقط، واحد من جهة مكة المكرمة والآخر من جهة البحر ثم فُتحت له بعد ذلك ستة أبواب هي: باب مكة، وباب المدينة، وباب شريف وباب جديد وباب البنط وباب المغاربة، كما أضيف إليها لاحقًا في بداية القرن الحالي باب جديد هو باب الصبة. وتمت إزالة السور لدخوله في منطقة العمران عام 1947م. لتبقى منه بعض المعالم التي تدخل اليوم ضمن اهتمام المجتمع الدولي باعتبار جدة التاريخية أصبحت ضمن قائمة التراث العالمي.
جدة المِعمار
وقد شددت اليونسكو في بيانها على أن جدة "شكلت اعتبارا من القرن السابع أحد أهم المرافئ على الطرقات التجارية للمحيط الهندي. فكانت تصل إليها البضائع الموجهة إلى مكة". كما أشار البيان إلى ما تحويه جدة التاريخية من أناقة العمارة المرجانية الساحلية للبحر الأحمر وأفكار وحرف يدوية من مختلف مناطق طرق التجارة.
#2#
أناقة العمارة التي تميز بيوتات جدة الشهيرة برواشينها الخشبية (نوافذ) وبأحجارها المنتقّاة التي كانت تُستخرج من بحيرة الأربعين ثم تعدل بالآلات اليدوية لتوضع في مواضع تتناسب وحجمها، إلى جانب الأخشاب التي كانت ترد إليهم من المناطق المجاورة كوادي فاطمة أو ما كانوا يستوردونه من الخارج عن طريق الميناء (خاصة من الهند)، كما استخدموا الطين الذي كان يُجلب من بحر الطين ويُستعمل في تثبيت "المنقبة" ووضع بعضها إلى بعض.
وتتلخص طريقة البناء - بحسب المختصين- في رصّ الأحجار فـي مداميك يفصل بينها قواطع من الخشب (تكاليل) لتوزيع الأحمال على الحوائط. حيث يشبه المبنى القديم إلى حد كبير المبنى الخرساني الحديث والأخشاب تمثل تقريباً الحوائط الخارجية للمنشأ الخرساني وذلك لتخفيف الأوزان باستعمال الخشب. ومن أشهر وأقدم المباني الموجودة حتى الآن دار آل نصيف ودار آل جمجوم في حارة اليمن، ودار آل باعشن وآل شيخ وآل قابل والمسجد الشافعي في حارة المظلوم، ودار آل باناجة وآل الزاهد فـي حارة الشام، و دار آل النمر في حارة البحر. بلغ ارتفاع بعض هذه المباني أكثر من 30 متراً، كما ظلت بعضها لمتانتها وطريقة بنائها بحالة جيدة بعد مرور عشرات السنين.
تميّزت هذه الدور بوجود ما يعرف بالـ "ملاقف" على كل الغرف في البيت، وأيضاً استخدمت الرواشين بأحجام كبيرة، واستخدمت الأخشاب المزخرفة في الحوائط بمسطحات كبيرة ساعدت على تحريك الهواء وانتشاره في أرجاء الدار وإلقاء الظلال على جدران البيت لتلطيف الحرارة، كما كانت الدور تقام بجوار بعضها البعض وتكون واجهاتها متكسرة لإلقاء الظلال على بعضها.
رمضان أهل أول
ومن البيوت التي تلقي بظلالها على بعضها البعض باتجاه الأسواق العامرة بكل ما هو جديد وغريب يعبر الزائر بأزقّة وساحات، فيها الكثير من لمسات "أهل أول" وطيبتهم. حيث تنتشر محال الحرف الشعبية. ومن أشهر أسواق المنطقة التاريخية قديماً وحديثاً والتي تشكل شريان المنطقة الاقتصادي والحيوي: سوق العلوي، سوق البدو، سوق قابل، وسوق الندى. إلى جانب عدد من الخانات التاريخية، والخان يسمى بالقيسارية أي السوق التي تتكون من مجموعة دكاكين تفتح وتغلق على بعض، ومن أهم خانات جدة التاريخية: خان الهنود، خان القصبة وهو محل تجارة الأقمشة، خان الدلالين، خان العطارين.
هذه الأسواق، على مرّ تاريخها، وبحكم الارتباط العضوي بين جدة ومكة المكرمة بأجوائها وطقوسها الروحانية، لا يحدث أن تنتشي وتزدحم بزوارها ومرتاديها طوال السنة كما يحدث خلال شهر رمضان. وهو ما يلحظه حتى هذا اليوم كل من يزور "البلد" خلال الشهر الكريم. يُذكر أن الجهات المعنية أنهت استعداداتها لتنظيم مهرجان رمضاني يتناسب وروحانية الشهر. ما يضمن إعادة إحياء الأجواء الرمضانية الترفيهية القديمة، ببساطتها وتجمعاتها وأكلاتها، بالتوازي مع العمل القائم على قدم وساق من أجل إعادة ترميم البنية التحتية لهذه المنطقة التاريخية، بشكل محترف، دون الإضرار بالإرث العمراني والحضاري المعترَف به عالميا.
يبقى إحياء التراث والحفاظ عليه وتهيئة الأماكن والخدمات الترفيهية والسياحية، لم يعد اليوم من قبيل الترف، بل ضرورة اقتصادية واجتماعية ثقافية، تحتّمها طبيعة حياة معاصرة تستنزف اقتصاديات البلد خارجيا دون أي مردود داخلي. وهذه هي الحلقة المفرغة التي تكسرها مثل هذه الإنجازات، ما يدعو كل مواطن للاحتفاء بها كمنجز حضاري يستحق كل من ساهم فيه الإشادة والتقدير.