عندما تتحول «الوسائل» إلى «أهداف» في أجهزتنا الحكومية

"البيروقراطية" تنظيم إداري حكومي، يقوم على تسلسل السلطة، وتقسيم العمل إلى وحدات ادارية متخصصة، مع وجود علاقات وفق إجراءات نظامية وموضوعية، بعيدة عن الأهواء، بوجود رقابة شاملة على الأداء، لضمان تحقيق كفاءة وفاعلية الخدمة.
وهو من أنسب التنظيمات للمنظمات الحكومية إذا ما طبق بالشكل الصحيح. غير أنه يكون عرضة للتشوهات عند تطبيقه على منظمات لم تستوعب مقاصده، ما يؤدي إلى تحول "الوسائل" إلى "أهداف"، وسيادة الجمود والتعقيد، وشيوع المجاملات والمحاباة والمحسوبيات، بحيث تصبح بيئة المنظمة غير محفزة لأي جهد إبداعي، ومدعاة للعمل على تحقيق "المصالح والامتيازات الفردية".
ومما لا شك فيه أن البيروقراطية بمعناها "الشائع المستهجن" ساهمت في إيجاد خلل في مفهوم "الخدمة العامة" لدينا، حيث أصبح المواطن يستجدي الموظف العام لمنحه الخدمة المكفولة له نظاماً. كما ساهمت كذلك في انعزال وبعد كثير من الأجهزة الحكومية عن احتياجات المواطن، ما يجعل حلولها بعيدة عن واقع التطلعات. وأمام "تعملق" السلطة التنفيدية، واستحواذها على صنع القرار وتنفيذه دون رقابة، تردى أداء الكثير من الأجهزة الحكومية التي ظفرت بقدر كبير من الاعتمادات المالية، في إطار توسع دور السلطات التنفيذية وضعف دور السلطات الرقابية.
وفي ظل التشابك والتداخل بين "الثقافة الاجتماعية، والثقافة التنظيمية"، ظهر العديد من الممارسات الإدارية الخاطئة، التي هي نتاج حتمي لغياب المعايير المهنية والأخلاقية، وغياب التقييم الموضوعي لأداء الموظفين، وضعف نظم المساءلة، وغياب الشفافية. ما أدى إلى طغيان حالات "النفاق الإداري"، وإيجاد بيئة عمل غير محفزة، يسهل فيها الطريق لغير الأكفاء لتولي مناصب لا يستحقونها، وهكذا تستمر "حالة الخلل". ودون أدنى شك فإن هناك العديد من الآثار السلبية لذلك، منها شيوع اللامبالاة، وضعف الروح المعنوية للمبدعين جراء فقدان العدالة، وضعف الإنتاجية، وتردي جودة الخدمة، وانتشار البطالة المقنعة ما أدى إلى سيادة "ثقافة إدارية بائسة تقوم على تحويل الوسائل إلى أهداف". وعلى الرغم من أنني متيقنة بصعوبة تخلّص كثير من أجهزتنا الحكومية من هذا الإرث الإداري القديم، الذي امتد على مدى عقودٍ من الزمان. لكني هنا سأحاول تقديم بعض الحلول من وجهة نظري.
لعلي أبدأ بضرورة إيجاد معايير موضوعية لتولي المناصب، بعيداً عن الاعتبارات الشخصية، ما يضمن اختيار القيادات الإدارية المبدعة التي لديها القدرة على صياغة الرؤية المستقبلية، بحيث تأخذ على عاتقها زمام المبادرة في اتخاذ القرارات الجريئة وتحقيق طموح ورغبة المواطن. يضاف إلى ذلك حاجتنا إلى تغيير جذري وجوهري في الأنظمة المالية الإدارية للحكومة. والتحول إلى "العمل المؤسسي" بما يتناسب مع المتغيرات والمستجدات الحالية، ويستوعب أي تغيرات مستقبلية من خلال قرارات جريئة وصادقة ومدعومة بأعلى سلطة. مع ضرورة وجود مراقبة سياسية ومجتمعية على السلطة التنفيذية لخلق التوازن وضبط الأداء بما يضمن الارتقاء بالعمل الحكومي ويكبح جماح أي محاولة لاستغلال الوظيفة العامة.
وختاماً، لو قدر لي لأهديت "قيادات السلطة التنفيذية" مؤلفات عن التخطيط الاستراتيجي وإدارة الجودة الشاملة ومهارات القيادة التحويلية. ودعوتهم لتبني مفهوم "إعادة اختراع الحكومة" كي تكون إدارة حكومية تركز على النتائج بدلاً من الإجراءات وترصد الاعتمادات المالية على أساس الأداء لتدعم وتتبنى الحلول الإبداعية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي