مملكة الغايات
إن المتأمل في التاريخ الإنساني وفي الواقع اليومي، لا يمكنه إلا أن يخلص إلى أن سلوك الإنسان تجاه أخيه الإنسان يغلب عليه طابع التشييء "مأخوذ من الشيء"، ولعل أكبر شاهد على ذلك هو تاريخ العبودية بكل أصنافها التي أخذت غلافا زمنيا طويلا ولا يزال ولو بمظاهر أخرى، لربما قد تجاوزت البيع والشراء كالمتاع في أسواق الرق، هذا على المستوى العام، أما على مستوى التفصيل اليومي فالمرء منا، عندما يتعامل مع الغير فغالبا، لا يكون تعاملا خالصا، ونظيفا من شوائب المنفعة، بل غالبا نحن نسلك مع الآخر، حيث ننشد مصالح وأهدافا، فنجعل منه قنطرة لمآربنا وجسرا لأهوائنا، ضاربين عرض الحائط تلك الحرمة القابعة في كيان كل إنسان إلى درجة تجريده من إنسانيته أحيانا، أو بعبارة الفيلسوف كانط نحن نتعامل مع الآخر كوسيلة وليس كغاية في ذاته.أي نتعامل معه كشيء وبكل ما يحمله الشيء من خصائص: كونه يباع ويشترى ويقوم بسعر وقيمته في نفعه، أي أنه لا يكتسي مكانته من ذاته. فالقلم مثلا تعلو قيمته ليس لأنه قلم، بل لكونه نافعا للكتابة، والسيارة بالمثل فقيمتها تكمن فيما تسديه من خدمة في النقل، وهكذا من الأمثلة الخاصة بالأشياء. لكن ننسى أن هناك استثناء في الأرض يتجاوز كل ذلك، إنه الكائن الإنساني العاقل، فهو ينأى أن يتعامل معه كشيء أو كوسيلة لأنه باختصار تتحدد قيمته في ذاته وليس فيما يملكه من مال أو مؤهلات معرفية أو جسمانية أو منزلة اجتماعية..
لقد كان كانط، الفيلسوف الألماني الذائع الصيت، معجبا بجون جاك روسو، فيلسوف التعاقد الاجتماعي، ويرى أنه هو من قاده إلى الطريق القويم، فيقول: "لقد ولى زمن كنت أعتقد فيه أن هذا (يقصد المعرفة) يمكن أن يكفي وحده ليصنع شرف الإنسانية وكنت أحتقر الرعاع الذين يجهلون كل شيء. روسو هو الذي قادني إلى الصواب. تلاشت هذه المزية التي تعمي القلب، وأخذت أتعلم احترام الناس، وإنني سأجد نفسي عديم المنفعة أقل بكثير من العامل البسيط، إن لم أؤمن بأن الاعتبار قابل لأن يمنح كل من تبقى قيمة تعمل على إقامة حقوق الإنسانية".
في هذا النص يبدو واضحا أن كانط لا يعول حتى على المعرفة في قضية قيمة الإنسان، فالمعرفة التي هي عنفوان الإنسان وما يفرق بينه وبين باقي الكائنات الأخرى، ليست ذات شأن يذكر عند كانط، فالكرامة الإنسانية تعلو على كل شيء وهي ملك للجميع يتقاسمها العالم والجاهل، إنها أمر مغروس في كياننا لا يحتاج إلى اكتساب.
إن هذا الفيلسوف الذي قدم نظرية أخلاقية في الواجب قد أزاح غبار النخبوية واحترم العامة والعامل البسيط، ونادى في دعوة مشهورة أن الإنسان يجب أن يعامل كغاية لا كوسيلة، فرفع من كرامة الإنسان إلى المطلق وهو الأمر الذي سيكون له تأثير كبير على حقوق الإنسان. فهو قد عمل على صياغة مجموعة من القواعد الأخلاقية أهمها بالنسبة لموضوعنا: قاعدة الغائية. فلنوضح ذلك:
قاعدة الغائية
يصوغ كانط هذه القاعدة على شاكلة أمر أخلاقي وذلك كالتالي: "افعل حيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما وفي الوقت نفسه غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة". بعبارة أخرى، إذا كان المرء يريد أن يصدر عنه فعل أخلاقي حقيقي مطالب بأن يعامل ذاته وذات الآخرين كغاية لا كوسيلة. فإذا كانت الأشياء تكمن قيمتها في نفعيتها واستخدامها لأغراض ومصالح معينة، إضافة إلى أنها تقوم بسعر ومن تم قابليتها للبيع والشراء. فإن الإنسان ليس بالشيء فهو لا يمكن استغلاله لمصالح خاصة، لأن الإنسانية تجثم في جوفه فهو كائن لديه الكرامة والعزة والحرمة وهي أمور تجعله لا يقبل ولا يرضى لنفسه الاستخدام والاستغلال فلا أحد يريد مثلا أن يساق إلى سوق الرق ليباع ويحدد له ثمن، فهناك صرخة في الباطن تمنعنا من ذلك.
#2#
إن هذه القاعدة الغائية منسجمة مع قاعدة التعميم الأولى، التي سبق أن كانت موضوع المقال السابق، فإذا كان مثلا، لا يمكن وضع الكذب ضمن قانون عام ومن ثم بطلانه أخلاقيا فإنه بالمثل باطل بمعيار قانون الغائية، لأنه يجعل من الإنسان وسيلة ويضربه كغاية. يقول كانط: "إن الذي ينوي أن يبذل وعدا كاذبا للغير سيدرك على الفور أنه يريد أن يستخدم إنسان آخر كوسيلة فحسب" ويستطرد كانط قائلا: "من المستحيل على من أريد أن استخدمه بمثل هذا الوعد الكاذب وسيلة لتحقيق أهدافي أن يوافقني على الطريقة التي أعامله بها" ليقول كانط بعد ذلك: "وتزداد هذه المجافاة لمبدأ الإنسانية وضوحا أمام العين إذا أضفنا إلى ذلك أمثلة من الاعتداء على حرية الآخرين وممتلكاتهم، إذ يتجلى عندئذ أن الذي يدوس على حقوق الناس إنما يقصد إلى استخدام أشخاصهم كما لو كانت مجرد وسيلة فحسب، دون أن يضع في حسابه أنهم، بصفتهم كائنات عاقلة، ينبغي أن يعدوا دائما في الوقت نفسه غايات، أي كائنات لا بد أن يكون في مقدورها أن تحتوي في ذاتها على الهدف من هذا الفعل نفسه". بهذه القاعدة الغائية يمكن الحكم على المنتحر باللأخلاقي لأنه اعتبر ذاته مجرد وسيلة للتخلص من آلامه ولم يتصرف في الإنسانية الكامنة في شخصه كغاية في ذاتها، كما أن الصديق الذي يغيب عنك سنوات، وعندما يتصل بك يطلب منك سلفا، يكون قد تصرف معك كوسيلة، وهو خلاف الصديق الذي يتصل بك قصد الاطمئنان وفقط. وبالمثل نقول عن ذلك الذي يدفع رشوة لك كي يحصل على صوتك في الانتخابات، فهو بهذا السلوك قد تعامل معك كجسر لبلوغ مصلحته، أي الوصول إلى قبة البرلمان، وبأي ثمن، ولو بإهانة كرامتك، وتكون أنت كذلك قد أسهمت في هذه الإهانة لأنك تركته يبيع ويشتري فيك.
إن كانط وبنظرته المثالية، كان ينشد غدا أفضل للبشرية، إن أخذ الإنسان على عاتقه السير والتحرك وفق قاعدة الغائية، فكانط كان يؤمن أنه لا محالة سيصل يوما إلى الهدف الأسمى وهو بناء "مملكة الغايات"، حيث السيادة للخير المطلق وهو مطمح البشرية، فكل كائن عاقل يجب أن يسعى في طلب العضوية ضمن هذه المملكة ويكفيه للدخول فيها أنه قادر على التشريع لها بمثل ما يشرعه الآخر، وذلك بالسعي الحثيث والحرص الدائم بأن يكون سلوكنا نحو الآخر باعتباره غاية في ذاته، وهو ما سيسمح للبشرية المقبلة أن تعيش الكرامة المطلقة وأن تضع حدا لشرانية الإنسان وذلك باجتثاث السوء منه والاستغناء عن كل القوانين ماعدا قانون الأخلاق. ولكن هيهات ذلك.