أي أخلاق تتلاءم وتكنولوجيا العصر؟
إن المتتبع لفلسفة الأخلاق في الزمن المعاصر يسترعي انتباهه الكم الهائل من النظريات الأخلاقية، خاصة تلك الموجهة نحو العلم، فنسمع عن الأخلاق البيولوجية البيوإتيقا/Bioéthique التي أفرزتها الثورة الجينية الهائلة والأخلاق الطبية لتأطير وضبط الاستخدامات العلاجية وكذلك الأخلاق الإيكولوجية التي جاءت كصرخة ضد الاجتياح الإنساني للطبيعة حد الاستباحة.. وهذا يدل على فراغ أخلاقي وإحساس عام بأزمة وخطر يحدق بالبشرية القادمة.
لقد أصبح الفلاسفة ينشدون جوابا عاجلا عن سؤال ملح ومحرج هو: كيف السبيل إلى حكمة أو أخلاق تضاهي الانفجار العلمي الهائل؟ بعبارة أخرى: هل من إتيقا Ethique أصيلة تتلاءم وحجم تكنولوجيا العصر وتفي بحاجة الإنسانية الحالية؟
سنحاول في هذه المقالة الوقوف عند الجذور العلمية التي دفعت الإنسان إلى الانتقال من الإيمان بالعلم إلى الخوف منه، أي الانتقال من إرادة السيطرة ونشوة فك شفرة العالم، إلى مخاوف الهدر المستمر والمؤدي إلى استنزاف الموارد وهو الأمر الذي ينبئ بكارثة بيئية معالمها أصبحت تتضح كل يوم.
لاستيعاب ذلك سنعود للقرن الـ 17 حيث بداية العلم الحديث وبروز النزعة الآلية للعالم التي كانت عبارة عن إطار نظري أي "باراديغم" موجه للإنسان نحو السيطرة على الطبيعة. لنقف في نهاية المقال عند الفيلسوف يوناس هانسHans Jonas 1993/1903 ونظريته في الأخلاق والمسماة باتيقا المسؤولية، والتي كانت إفرازا للأزمة البيئية العالمية.
من النزعة الإحيائية
إلى النزعة الميكانيكية
لنتذكر كون الإنسان قبل الأزمنة الحديثة كان يملأ الطبيعة بالفاعلية "فالطبيعة تغضب، تفرح، تحب، تكره تتربص، تنتقم..."، وهي أمور إنسانية كان يضفيها الإنسان على العالم، فذاك كان إمكانه الوحيد في تفسير ما يحدث إلى درجة أنه كان يتوسل للطبيعة ويترجاها ويتقرب منها وجدانيا وطقوسيا كي تكون رحيمة به، تجود عليه بسخاء وتلين تجاهه عندما تقسو.
لكن المشهد سيتغير كليا بعد ظهور الثورة العلمية الحديثة خاصة مع الفيزياء "الغاليلية" المؤسسة على مبدأ القصور الذاتي القائل بأن: الجسم المادي لا حول له ولا قوة فهو إذا ما عزل عن كل القوى الممكن أن تؤثر فيه، سيبقى إما ساكنا أو في حركة مستقيمية منتظمة، لذلك فهو عاطل وقاصر عن الفعل لوحده دونما تأثير خارجي، إنه بكلمة واحدة كسول، خامل ودون إرادة.
وإذا ما سلمنا بهذا المبدأ فهذا سيعني مباشرة أن العالم المحيط بنا عاطل وخامل وقاصر، وكل حركة جسم فيه لا تتم بملء إرادته بل هناك قوة قد تربصت به، فالعالم إذن مجرد آلة صماء ومن هنا المنطلق للنزعة الآلية، التي ستصبح التصور السائد في القرن الـ 17، بل ستصبح نموذجا للتفسير أو "باراديغما" سيفرض نفسه على العقول قوامه أن المادة عاطلة ولا تخفي بداخلها أسرارا أو كيفيات سحرية أو قوى غريبة.
فحينما صرح الفيلسوف ديكارت في كتابه مبادئ الفلسفة قائلا: "لا توجد بالأحجار والنباتات قوى خفية ومتوارية عنا، كما لا تخفي أسرارا، كالتجاذب والتنابذ، فلا شيء يوجد بالطبيعة إلا ويرد إلى أسباب جسمية محضة، لا دخل للأرواح أو الأفكار فيها"، فإنه كان ينوب عن الجميع وينطق باسم عصر بأكمله. إن مبدأ القصور الذاتي سيعطي المسوغ النظري لإفراغ العالم كليا من كل إرادة ومن كل حرية ومن كل فكر ومن كل قرار لتعود للإنسان كاملة، فالإنسان كان يضفي سابقا خصائصه ومواصفاته على الطبيعة فكان غريبا على ذاته، لكن بعد بزوغ العلم الحديث، سيسترجع الإنسان تلك الخصائص غير منقوصة فما للطبيعة هو للطبيعة وما للإنسان هو للإنسان. للطبيعة القصور والعطالة وللإنسان الحرية والفاعلية بكلمة واحدة لقد تم إفراغ العالم من الروح، أو هكذا اعتقد الإنسان، ليتم ضخ تلك الروح كلية في جوفه.
إن مبدأ القصور الذاتي المشكل للفيزياء الميكانيكية، جعلت نظرة الإنسان للعالم تتغير فهو أصبح مجرد آلة ضخمة أو لنقل هو ساعة كبيرة مفرغة من الغاية تحكمها الضرورة فحسب "سبب ← نتيجة"، فهو خاضع للحتمية ولا مجال للحرية فيه، فالوحيد الذي له الغاية هو الإنسان لأنه يختار، وما دام العالم قاصر، إذن وجب التحكم فيه والسيطرة عليه.
النظرة الموضوعية للعالم: من الكيف إلى الكم.
إذن مع النظرة الآلية للعالم ثم سحق النظرة الإحيائية، وتم التعامل مع الطبيعة باعتبارها ساعة كبرى صماء لا غاية لها وتحتوي على كمية ثابتة من الحركة وكل حركة جزئية فيها لا تحدث تلقائيا أو بحرية، بل هي من إملاء قوة دفعتها وسببتها. فلا وجود لعوامل ذاتية بل حركة العالم موضوعية وهو ما سيؤدي في القرن الـ 17 إلى إقرار التعامل مع هذا العالم كميا وليس كيفيا، وهو ما يبرز ابتعاد العلماء عن اللغة الطبيعية لتفسير العالم، نحو اللغة الرياضية وما عبارة جاليليو القائلة أن العالم مكتوب بحروف رياضية إلا شاهد على ﺫلك، فاللغة الطبيعية تعوزها الدقة فهي كيفية والكيفي ممزوج بهواجس الذات وأحاسيسها وانفعالاتها، وهو ما يمس الموضوعية باعتبارها تطهير للموضوع من شوائب الذات الوجدانية.. أما اللغة الرياضية فهي صارمة ودقيقة تجفف منابع الذاتية وتترك الموضوع نظيفا كما هو دون تشويه من طرف الذات. فمثلا عوض القول إن الأرنب سريع "كلمة سريع غامضة وغير دقيقة" سنقول إن سرعة الأرنب هي 40 كلم/ س. وعوض القول أن الجسم ساخن، سنقول أن درجة حرارته هي 120°C، إذن لقد مكنت فكرة إفراغ العالم من الذاتية جراء مبدأ القصور الذاتي من جعل البشرية تضبط المادة ومن ثم العالم من حولنا رياضيا وتجعله أكثر دقة بل أكثر موضوعية حيث السيادة فيها للكميات التي تقطع الباب على الاختلافات، عوض الكيفيات التي هي مرتع خصب للاختلاف ومن ثم الصراع.
تداعيات التصور الآلي للطبيعة
لقد مهد التصور الآلي للعالم الطريق للإنسان نحو الاجتياح والسيطرة دون توقف لأنه آمن أن الطبيعة قاصرة والقاصر لا حول له ولا قوة، وآمن أيضا أن الحرية هي ملك خالص له لا تشترك معه أي مكون من مكونات الطبيعة، فهو أصبح ﺫلك الفاعل الوحيد، القادر على التحرر من قبضة الحتميات المتربصة به من كل الجوانب، فيكفيه أن يفكك ساعة العالم ويعرف أسبابها القريبة ليتحكم فيها. إن النزعة الآلية نحو العالم جعلت الإنسان يغادر التعامل مع الطبيعي نحو الصناعي، فلا شيء جاهز بل كل شيء يبنى. فالعلم المزود بهذا الأفق الآلي أصبح من القوة، حيث يكتسح ويحرج ويربك كل حسابات التفكير القديم، إنه اليد الطولى التي تستأسد به المنظومة الحداثية ويكفي كمؤشر على ذلك الحديث عن أبرز ما أصبح يشغل بال البشرية وهو الثورة الجينية، فالعلم البيولوجي دخل إلى دهاليز الخلية، وسبر أغوار نواتها وفكك صبغياتها فضبط الشفرة الوراثية مما مكنه من التحكم وإقامة التعديلات والهندسات الجينية، فنجد أن البطيخ البيضوي الشكل يصبح مكعبا..، كما أنه الآن أصبحت الطريق معبدة لتحويل النسل وتبديله فالعلماء قادرون على جعل الطفل ينجب ويولد بالمواصفات التي يشتهيها الآباء "الطول، لون البشرة، ولون العين وطرد الأمراض الوراثية...".
من النجاحات إلى المخاوف
إن المنهج العلمي الناشئ في القرن الـ 17 والمؤسس على خلفية نظرية قوامها النظرة الآلية للعالم مكنت العلماء من تحقيق نتائج مبهرة لا تخطئها العين، وتجدر الإشارة إلى أن القرن الثامن عشر وهو قرن الأنوار كان متفائلا جدا بمآلات العلم وأنه السبيل الأوحد لتحقيق سعادة الإنسان، ما عدا حالات خاصة شككت في الأمر ومنهم الفيلسوف روسو. لكن بدء من القرن الـ 17 بدأت المخاوف تظهر على السطح، وما رواية "فرانكنشتاين" سنة 1816 لـ "ماري شيلي" إلا شاهد على ذلك وللذكر فلقد تم إخراجها سينمائيا، إنها رواية تحكي قصة طبيب يدعى فرانكنشتاين تجرأ على صناعة إنسان فتمكن من جمع الأعضاء من هنا ومن هناك ثم ضخها بشحنات كهربائية، فتشكل لديه مسخا لا هو بالإنسان ولا هو بالوحش، فعاد بالويلات على الطبيب. لقد كانت هذه الرواية تجسد لكل من قرأها انقلاب السحر على الساحر، انقلاب العلم على صاحبه، فالرواية تعني مباشرة أن العلم بعد نجاحه وطموحه اللامحدود أصبح مخيفا ومرعبا بل مهددا للبشرية ومستقبلها.
إن المخاوف من العلم ستتكرر باستمرار خاصة بعد الثورة الجينية وبعد الاجتياح للطبيعة حد الاستنزاف وهو ما سيجعل الفلاسفة يتحركون نحو إنشاء نظريات أخلاقية ملائمة لهذا الغرور والصلف العلمي المهدد للجميع، ولعل من أبرزهم الفيلسوف "يوناس هانس" وهو أحد تلاميذ الفيلسوف الشهير "هايدغر" فهو من الذين سيفكرون في حكمة تعمل على كبح المارد العلمي، وتشكيل نظرية في الأخلاق الايكولوجية تتلاءم وتكنولوجيا العصر، فالأخلاق الحداثية خاصة في بعدها الكانطي لم تعد مسعفة من وجهة نظره.
أستاذ الفلسفة
المغرب