الترجمة كنفخ للحياة في النصوص الأصلية
تعد قضية الترجمة من الإشكاليات المتداولة في زمننا المعاصر، حيث طرأ على مقاربتها تغير كبير، فتم الانتقال بها من تلك النظرة النموذجية والمثالية للترجمة حيث طغيان التصور الأخلاقي المبني على أساس أن النقل الحق يجب أن يلتزم بالأمانة والوفاء للأصل، إلى نظرة ترى أن الترجمة هي تأويل وتفجير وإنتاج لمعاني جديدة. في هذا الصدد ألف المفكر عبد السلام بنعبد العالي كتابا سماه "في الترجمة" وهو مكتوب بالعربية والفرنسية في الآن نفسه. وهو من سيكون عمدتنا في هذا المقال الذي سنعمل فيه على تبيان أوجه الاختلاف بين النظرتين التي سنلقب الأولى منها بالنظرة الدائرية والثانية بالنظرة الخطية.
التصور الدائري والأخلاقي للترجمة
تفترض الترجمة النموذجية أن هناك نصا أصليا يحمل معنى واحدا وجب الحفاظ عليه، فالترجمة يجب أن تتضمن توقيع صاحب النص الأصلي، أي ينبغي لها ألا تمس هويته أو تفقده نقاءه الأولي. بكلمة أخرى فالترجمة كمثال أقصى تتطلب أصلا منقولا بتطابق كلي إلى حد الوفاء. وهي المهمة التي غالبا ما تبوء بالفشل إلى حد القول الشهير إن "كل ترجمة هي خيانة".
إن هذا التصور يضع الترجمة في سياق أخلاقي ويجعل الأمانة في النقل أساسا لا محيد عنه، وهو الأمر الذي يثير العديد من الإحراجات التي يمكن صياغتها كالتالي:
إن هذه النظرة الأخلاقية للترجمة التي يمكن تسميتها بالنظرة الدائرية، لأنها تريد دائما العودة إلى الأصل، وإيجاد التطابق معه، وتشكيل وحدة بين اللغات، هل حقا يمكنها أن تدفع بهذا التجانس اللغوي؟ علما بأن كل لغة تحتوي على لغات متعددة في ثناياها. وبعبارة أخرى ألا يحس كل واحد منا بتجربة التعدد اللغوي في جوفه داخل لغته هو؟ ناهيك طبعا عن أن كل نص تتخلله بشكل صريح أو مضمر نصوص أخرى تشكل نسيجه وبنيته، ودون أن ننسى أيضا كون كل نص ولو لم يترجم فهو ترجمة في حد ذاته، إلى درجة تجعلنا نطرح السؤال التالي: هل يوجد هناك نص أصلي فعلا؟ لأنه إذا ما أجبنا بنعم: هناك نص أصلي، ففي هذه الحالة سنسأل مرة أخرى بالضرورة ما هو أصل الأصل؟ وهكذا دواليك دون نهاية حتى نقطة التلاشي التي لا يعود معها إلا الأثر. إن النص يحمل في طياته نصوصا أخرى وهو ما يسمى التناص، فإذا ما أخذنا على سبيل المثال كتابا للفيلسوف ابن رشد وليكن "تهافت التهافت" فهو دون نقاش يحمل شيئا من الغزالي وشيئا من علماء الكلام وأشياء من أرسطو وهكذا ... فهو نص مركب يعج بنصوص أخرى تعتمل في قلبه.
نخلص من أن هذا التصور الذي سميناه التصور الدائري للترجمة الذي يسعى للحفاظ على الهوية الكاملة للنص الأصلي والمؤسس على نظرة أخلاقية قوامها نقل نسخة بوفاء وأمانة لا يمكنها أن تتحقق واقعيا وهذا ما سنسعى إلى إلقاء مزيد من الضوء عليه.
قصة دائرة الترجمة
لاستيعاب استحالة الأمانة في النقل والترجمة من لغة إلى لغة أخرى غالبا ما تقدم هذه القصة الطريفة لكنها معبرة جدا: تأمل معي المشهد التالي: مجموعة من الرجال يجلسون الواحد بجانب الآخر مشكلين دائرة كبرى، بحيث لا يعرف الفرد من أعضاء هذه الدائرة سوى لغة من على يمينه ومن على يساره، ولنتصور أن أحد أفراد هذه الدائرة قد أطلق جملة في أذن جاره، فقام هذا الأخير بترجمتها لمن هو أقرب منه وهكذا دواليك حتى أكملت الجملة الدائرة فعادت لصاحبها الأول. فماذا ستكون النتيجة؟ بالطبع ستصبح الجملة الأصلية مشوهة بل ربما ممسوخة ولا علاقة لها بالمعنى الأول الذي قصده صاحبها. إن هذه القصة الافتراضية تعني مباشرة كون الترجمة خيانة للمعنى الأصلي وكلما استمرت الترجمة عن الترجمة تحلل المعنى الأصلي واستحال إلى غيره.
التصور الخطي للترجمة
إن هذا التصور الأول الذي ألقينا عليه نظرة ولو خاطفة، أصبح حاليا لا يرضي الباحثين في مسألة الترجمة، حيث بدلوه بتصور آخر يمكن تسميته الترجمة الخطية، محاولين تجاوز مفاهيم طغت لزمن على الترجمة من قبيل: أصل، هوية خالصة للنص، الحقيقة، زمنية دائرية ... نحو ترجمة قوامها التحول للأصول وتوالد للنصوص بزمنية خطية تتجه نحو الأمام غير عابئة بالأصل فهي لا ترنو إلى العودة بل إلى السير قدما في عملية تناسل للمعنى غير منقطع، بمعنى أن عملية النقل من لغة لأخرى ليست هي عملية محافظة على المعنى المسمى أصلي بل هي ضخ لمعنى جديد. فإذا كانت النظرة الدائرية للترجمة ترفض الاختلاف بين الأصل والنسخة فإن النظرة الخطية تقبل مسبقا هذا الاختلاف، فقدر النسخة ألا تكون طبقا للأصل أبدا. فماذا ستكون إذن؟ سيتغير معنى الترجمة لتصبح ماهيتها النهائية هي: التأويل. إذا كانت النظرة المثالية للترجمة التي تنشد الأمانة والحرفية في النقل تنظر لكل ترجمة بعين الريبة وتعتبرها مجرد عمل من الدرجة الثانية لا يرقى أبدا للأصل، فإن النظرة المعاصرة تقرأ الترجمة كعمل فذ ينفخ الحياة في النصوص. ولفهم الأمر جيدا لا بأس بضرب مجموعة من الأمثلة تدعم الأطروحة المعاصرة لدور الترجمة :
1- هل كان للفيلسوف الإغريقي الشهير أرسطو إمكانية الاستمرار على قيد الحياة لو لم تترجم أعماله أولا للسريانية ثم العربية واللاتينية والألمانية والآن الإنجليزية؟ ... هل هناك أحد يقرأ أرسطو باليونانية ما عدا المتخصصين جدا؟ ماذا كان سيكون أرسطو لولا العمل الكبير الذي قام به رجل كابن رشد والملقب عند اللاتين بالشارح الأكبر، علما بأنه لم يكن يعرف أبدا اليونانية؟ أليس أرسطو سيقدم على طبق من ذهب لأوروبا القرن الثالث عشر مصبوغا بلمسة عربية واضحة جدا؟ فالترجمة باعتبارها تأويلا وضخا لمعان جديدة، قد لا يقصدها صاحبها، هي بمثابة إحياء لنصوص كانت ستموت. إنها إنقاذ وطوق نجاة لما يسمى الأصل.
2- إذا تحدثنا عن الفلسفة العربية الإسلامية، يمكن القول عنها إنها ترجمة ونقل للفلسفة الإغريقية، لكن بالمثل يمكن أن نقرأ الأمر بطريقة مختلفة فنقول إن الفكر اليوناني ما كان ليعيش ويستمر إلا في الترجمات العربية. وبالشاكلة نفسها يمكن قراءة الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين مع كل من سارتر، فوكو، دريدا ... باعتبارها مجرد نقل وترجمة للفلسفة الألمانية مع كل من نيتشه وهوسرل وهايدغر... لكن يمكن القول أيضا إن الفكر الألماني لا يحيا إلا في الترجمات الفرنسية.
3- إن الناطقين باللغة الألمانية، يطلعون على كتاب الفيلسوف هيجل "فينومينولوجيا الروح" مترجما باللغة الفرنسية من طرف "جون هيبوليت" قبل مباشرته باللغة الألمانية. وهذا المثال يوضح كم أن الترجمة إنقاذ في المعنى ويسر في الاستيعاب أفضل من الأصل ذاته.
- لقد أصبح الكاتب الروسي "دوستويفسكي" مشهورا عندما ترجم أدبه إلى اللغة الفرنسية خاصة بدعم من الكاتب "أندري جيد"، وهذا يذكرنا بالمفكر "عبد الله العروي" الذي كان كتابه "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" مكتوبا بالفرنسية قبل العربية، وكأن الكاتب أحيانا لا يستوعب إلا عن طريق الترجمة.
هذه الأمثلة وأخرى تثبت أن الترجمة قد ودعت تلك النظرة الأخلاقية المرتبطة بالوفاء للأصل نحو نظرة ترى في الترجمة تأويلا ينفخ الحياة في النصوص بلا نهاية.
أستاذ الفلسفة ـــ المغرب.