الملاحظة مثقلة بالنظرية
عندما أقول لك يا صاحبي: انظر معي إلى ما أراه! وتجيبني: معذرة لا أستطيع نهائيا أن أرى ما أنت تبصر! فاعلم مباشرة أن الأمر لم يعد مسألة نظر حسي، بل المسألة أصبحت نظرا عقليا. إننا قد نلاحظ بالعين الشيء نفسه لكن ليس بالضرورة أن نرى الشيء نفسه، فالأمر يتعدى العين المكونة من بؤبؤ وقرنية وشبكية وعصب بصري ... إلى محتوى العقل في الأساس.
لتوضيح الأمر أكثر سنحاول في هذا المقال ضرب مجموعة من الأمثلة التي ستؤكد لنا أننا لا نرى بعيوننا بل نرى بعقولنا، أو بتعبير أكثر دقة سنبرز أن كل ملاحظة ليست بريئة أبدا، بل هي مثقلة ومحملة بخلفية نظرية صريحة أو ضمنية، واعية أو غير واعية، هي التي تدفع نحو رؤية محددة وتطرد أخرى. أي سنعمل على إثبات أن كل ملاحظة هي انتقاء.
#2#
وكمثال يوضح الأمر أكثر سنتحدث عن الحروف الهيروغليفية المصرية القديمة. فهي كان قد مر عليها ردح طويل من الزمن تعتبر مجرد طلاسم ورموزا غامضة لا ترقى إلى مستوى لغة كاملة، فلا أحد كان قادرا بمجرد رؤية تلك الكتابة أن يعلن أنها لغة مقدسة قديمة، فكما قلنا إن الأمر يحتاج إلى افتراض وليس إلى مجرد تحديق في تلك الكتابة، وهو ما سيتحقق مع الحملة الفرنسية لمصر بزعامة "نابليون بونابرت" سنة 1798م ، فكما هو معلوم فإن بونابرت قد أخذ معه مجموعة من الباحثين والعلماء ومن ضمنهم شاب اسمه "شامبليون" وهو من كان له الفضل في فك شفرة اللغة الهيروغليفية. قد يتساءل القارئ لماذا بالضبط شامبليون؟ ولماذا بالضبط مشارف القرن الـ 19؟ الجواب يكمن في أن القرن الـ 19 كان منشغلا بالتاريخ وأن لكل شيء جذور، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فشامليون كان مطلعا جيدا على اللغات القديمة بما فيها الشرقية والقبطية، وكان مهووسا بعلم المصريات، فالرجل كان مزودا بخلفية نظرية واضحة أهلته إلى طرح الأسئلة المناسبة واستنطاق ملائم للوثائق والآثار والعمل على جعلها تبوح بسرها وتعطي كنهها. فالتحديق إذن في الوثائق القديمة ولو لمئات السنين لن يعطي جديدا يذكر، لكن بمجرد أن نقتحم الوثيقة بسؤال جديد وبشحنات نظرية غير معهودة، فإن الوثيقة ستجيب وستكشف عن مكنونات جديدة.
إن هذه القضية التي تؤكد على أن كل ملاحظة هي بالضرورة تحتاج إلى جواز مرور نظري هي التي تفسر لنا مثلا لماذا فلكي القرن الـ 17، وليكن "جاليليو" كنموذج، يرى الشمس ثابتة؟
بينما فلكي القرون الوسطى، وليكن بطليموس مثلا، يرى الشمس متحركة؟ على الرغم من أنهما ينظران إلى الشيء نفسه، حيث تسقط الشمس على شبكية عينيهما بالشاكلة نفسها. إن المسألة ليست نهائيا تحديق في الشيء بل المسألة مسألة نظرية، ففلكي القرن الـ 17 مسلح بنظرية: مركزية الشمس الكوبيرنيكية، أما فلكي القرون الوسطى فهو موجه بإطار نظري يقوم على: مركزية الأرض الأرسطية. إذن غيّر مرجعيتك وافتراضك وأسئلتك ... ستغير بالضرورة نظرتك.
قصة سقوط التفاحة على نيوتن واكتشاف الجاذبية هل هي حقيقة؟
لقد برزت بدءا من القرن التاسع مدرسة سميت بالمدرسة الوضعية، وهي مدرسة اشتهرت بتصور للمنهج العلمي يقوم على أساس اتباع الخطوات التالية الشهيرة: الملاحظة والافتراض والتجريب فصياغة القانون. هذا التصور للعلم سيتعرض لانتقادات كثيرة خلال القرن الـ 20، لأن الملاحظة كما شرحنا سابقا لا تنتج شيئا، فقد ترى لسنوات ظاهرة معينة ولا يعني أنك ستستخرج حقائق جديدة، فالقول بأن الواقعة توحي بالفكرة أي بالافتراض كما يعي الوضعيون، لا يمكن أن يكون بهذه البساطة، فالفرضية المقترحة من طرف العالم لا بد لها من خلفية نظرية تكون بمثابة جواز مرور يسمح بملاحظة الواقعة بعيون جديدة، فلو كانت الملاحظة تؤدي إلى الافتراض مباشرة لكان كل الناس علماء وهذا مستحيل. ولتوضيح الأمر نذكر قصة سقوط التفاحة على نيوتن. إن الناس قد رأت التفاح يسقط منذ آلاف السنين دون أن توحي لهم واقعة السقوط هذه بفرضية الجاذبية، فالأمر إذن ليس مرتبطا بملاحظة خام وعفوية، بل لا بد من مرجعية وإطارات ذهنية تسمح بالرؤية المناسبة، فواقعة سقوط الأجسام في القرن الـ 17 كانت الشغل الشاغل للعلماء، فجاليليو مثلا قد تمكن من وضع قوانين سقوط الأجسام، كما أن العلماء آنذاك اهتموا بمسألة دوران الأجسام في السماء وما العالم "كبلر" إلا نموذج منهم، فأصبح بحوزة العلم قوانين متعلقة بحركة السقوط في الأرض (التفاحة مثلا) وقوانين متعلقة بحركة الدوران في السماء(القمر مثلا). في هذه الظروف وبهذه الإمكانات النظرية جاء نيوتن متسائلا: لماذا تسقط التفاحة ولا يسقط القمر؟ فعبقرية نيوتن لا تكمن في كونه لاحظ التفاحة تسقط، بل في تخيله لنظرية الجاذبية التي بواسطتها حل اللغز مكتشفا أن السقوط دوران والدوران سقوط فالمسألة مرتبطة فقط بتغير الكتلة والمسافة، بل هو اعترف أن ما أقامه من منجز كان على أكتاف هذين العملاقين أي جاليليو وكبلر. نخلص إلى أن قصة سقوط التفاحة قصة ساذجة وبسيطة لا تشرح حقيقة كيف تصنع المعرفة، فنيوتن لو ولد في زمن قبل القرن الـ 17 ما كان نهائيا ليقدر على تخيل فكرة الجاذبية، فالأمر كان يحتاج إلى نضج وإلى سياق خاص، هو سياق العلم الحديث، فلكل شيء مستقر.
نستنتج من كل ما سبف نتيجتين أساسيتين:
1 - الأولى وهي أن المعرفة الإنسانية قدرها أن تكون ذاتية، وهو ما يطرح إحراجا كبيرا لمسألة الموضوعية التي تعني النزاهة والحياد القيمي وإبعاد شوائب الذات عن الموضوع المدروس. بعبارة أخرى فالموضوعية التي هي مطلب كل عالم والتي هي السعي الدؤوب نحو إلغاء تأثيرات الذات يصبح جراء التصور المذكور أعلاه صعب المنال لأن المعرفة يعلق بها دائما ما هو ذاتي.
2 – أما النتيجة الثانية وهي الأهم: فإذا ما اقتنعنا بفكرة أن الملاحظة بالضرورة انتقاء وأنها لا يمكن أن تكون بريئة وهي حتما موجهة بمرجعية وافتراض معين وفي أحيان كثيرة بشاكلة تتجاوزنا... فإن هذا الأمر سيفضي إلى القول بالنسبية عوضا عن المطلقية في أي قناعة كانت وإن ما يمكن أن يسميه المرء حقيقة، هو حقيقة بحسب نظرية معينة، أكيد ستنافسها أخرى! وإذا كان الأمر كذلك، فإن السؤال الذي سيبقى عالقا هو كيف نفاضل بين النظريات الموجهة للرؤية؟