درء الخطر العربي (6) : عقاب الشعوب !
سأبدأ بالتساؤل: هل خُدع المجتمع الذي يعتبره الكثيرون نموذج حرية التعبير عن الرأي وحرية اتخاذ القرار (الديموقراطية) في العالم من قبل نظام حكومته بفرعيها التنفيذي والتشريعي؟ وهل أهدر هذا النظام جزءاً معتبراً من مصادر مجتمعه وما يُحصله من دافعي الضرائب في غير ما يعتقد به ذلك المجتمع من مبادئ وقيم إنسانية يتضمنها دستورهم ولا يتضمنه المنهج البراجماتي الذي يعتمده نظامهم وبخاصة في الشئون الدولية؟ وبمعنى آخر، هل يكيل ذلك النظام بمكيالين متبعاً منهجين أحدهما للشأن الداخلي ووفقاً للمقتضيات الدستورية والأخر يخص الشأن الخارجي الذي تتعدد فيه المعايير التي يستخدمها على اختلاف مصالحه مع الدول في العالم وأثناء ذلك يُحمل دافعي الضرائب لديهم عبء ذلك مادياً وأخلاقياً؟
في مقال سابق أشرت إلى إفادة وزير الخارجية الأمريكي لمجلس الشيوخ والمبنية على "معلومات استخباراتية حساسة" لا يمكن الإفصاح عنها ولا عن مصدرها: بأن "مصالحنا (our interests) قد تتأثر بشكل كامل إذا لم يتم إقرار العمل العسكري" لمعاقبة النظام السوري الحاكم على أعماله الوحشية ضد معظم الشعب السوري الذي يعارضه، وأن ذلك بدى وكأن وزير الخارجية الأمريكي هو وزير خارجية الكيان المحتل وأنه يُدلي بإفادته أمام مشرعي وحكومة الكيان المحتل وليس مجلس الشيوخ الأمريكي.
تعلم الإدارة الأمريكية أن ليس بوسعها، وإن كان من صلاحية رئيسها بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، الأمر بالقيام بأعمال عسكرية، من قبيل تلك التي تنفذ الآن في العراق "لاحتواء" بعض "الخلايا" المتشددة، وإلا لتعرضت لغضبة الرأي العام الأمريكي، ولما أنها استنفذت آخر مخزون المناورة وفق المعادلة البراجماتية الأساس ولم يبق من هامش للمراوغة، وجدت نفسها مرغمة للجوء للسلطة التشريعية، وأكثر ما يثير الاهتمام أنها فكرت في الإقدام على هذا الإجراء بحذرٍ شديد قبل طرحه للتصويت.
لقد أتضح من استطلاع للرأي حيال تدخل الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً في الأزمة السورية، وعلى الرغم من خروج عدد ممن يعدون من المؤثرين في مجلس الشيوخ الأمريكي معلنين تاييدهم لمثل هذا التدخل، معارضة ما يزيد على (60%) من المجتمع الأمريكي لمثل ذلك الأمر وفقاً لنتائج استطلاعات للرأي على مدى الأسبوع الثاني لسبتمبر 2013 م، ولما استشعرت الإدارة الأمريكية سقوطاً ذريعاً أشد من ذلك الذي انتهى إليه التصويت في البرلمان البريطاني ضد ما طرحه رئيس الوزراء في نفس الشأن بما يزيد على (51%)، وفي ضوء مثل هذه النتيجة شبه الحتمية، والتي سيمتد أثرها السلبي إلى الحزب الحاكم والانتخابات النصفية والرئاسية التالية، تراجعت الإدارة عن طرح الأمر برمته.
ينبغي هنا أن أوضح أن المجتمع الأمريكي، عدا ما يتعلق بالمعتقد الديني والخلفية الثقافية، هو مجتمع صديق ومتعايش يركز جل اهتمامه بشئونه التي يتشارك في طبيعتها كافة المجتمعات البشرية على وجه البسيطة، فالانسان الأمريكي العادي يحرص على احترام النظام العام، يشارك برأيه، يلتزم بواجباته، يهتم بالتعليم، يعمل، يحرص على رعاية أبناءه، يتسوق حاجياته، يمارس الرياضة، يتفهم أسلوب حياة جيرانه، وسوى ذلك من الأمور الحياتية، كما تتراوح نسبة مشاركتهم في الانتخابات ما بين (50 إلى 60%)، ومعروف عن المجتمع الأمريكي أنه يندر أن يكون فارق النسب بين ميولهم كبيراً فيما يُطرح من خلال استطلاعات الرأي، إذاً يعتبر استثنائياً أن يصل الفارق إلى (10% فأكثر)، فليس غريباً إذاً اعتبار النسب أعلاه قد شكلت تحدياً مباشراً للإدارة الأمريكية بإمكانية حصولها على تأييد مجلس النواب، والمفترض أنه ممثل لرأي المجتمع، مما سيشكل ضغطاً قوياً على مجلس الشيوخ في نفس الاتجاه، فماذا بقي لم يُناقش؟
ذكرت في المقال السابق أن الفترة من نهاية أغسطس إلى منتصف سبتمبر 2013 م كانت حاسمة، حيث مثلت النافذة الضيقة الوحيدة للتنفيذ العاجل والفوري لما كان مدبراً تنفيذه على المديين المتوسط والطويل مجتمعين وفقاً للمعادلة البراجماتية الأساس وشديدة التعقيد والتشعب، إذا فالأدوات المنفذة لتهيئة الظروف لإعادة توجيه بوصلة المخطط الإيراني على المديين المتوسط والطويل تجاه المنطقة العربية موجودة على الأرض، وإذاً فهناك بقية شوائب وشئ من العوالق.
لن أضيف كثيراً بالحديث عن علاقة البراجماتيين بالخلايا المتشددة في العراق والشام "فعش الدبابير" هو صنيعتهم، إلا أن الجديد والمثير للاهتمام في ذات الوقت هو التصاعد المضطرد لقوة تلك الخلايا وسرعة انتشارها وسيطرتها على المناطق المحددة لها، وهي التي لم تكن لتقوى على مواجهة أهالي القرى قبل نحو سنة من يومنا هذا، فها هي تُطيح بجيش العراق في الموصل وغيرها فيما يشبه المشهد الفكاهي، وها هي تستولي على معدات ذاك الجيش الذي كلف إعداده وتسليحه المليارات لسنوات، وها هي ذات الخلايا تتعرض "للتأديب الممنهج" حتى لا تخرج عن النص الذي حُدد لها وليتم تذكيرها من المتحكم في الأمور، وها هي "ماكينة الإعلام الانتقائية" تُُظهر أعمال الإنقاذ البطولية لأقليات مضطهدة شمال العراق فيما تتعامل بما "يرفع العتب" حيال ما يحصل في سوريا ويستثنى من ذلك ما حصل بشأن "جريمة السلاح الكيماوي المروعة"، أما ما يتعلق بقرار مجلس الأمن رقم (2170) الذي صدر "بإجماع" الأعضاء ضد بعض الجماعات المتشددة بتاريخ 15 أغسطس 2014 م فقد تحدث عنه مسئولون بما مفاده "أنه لا يتعدى كونه معنوياً" فيما أوضح خبراء أن القرار يصعب تنفيذه لارتباط بعض تلك المنظمات الإرهابية بدول وأجهزة استخبارات، أما فيما يتعلق بالتغييرات في الحكومة العراقية بما فيها خروج رئيس الوزراء العراقي المنتهية فترة ولايته فهي أشبه بالمسرحية الهزلية التي ستظهر خفاياها عاجلاً أو آجلاً.
ومن هنا يتضح جلياً أهداف التدخل العسكري الأمريكي في سوريا، فالهدف المعلن هو معاقبة النظام، أما الهدف الحقيقي فهو "إخماد الثورة" خشية أن يتكرر ما حصل في تسونامي الحدث العظيم الثاني ويتعقد بذلك تنفيذ المعادلة البراجماتية الأساس، أو يتم تسيير الثورة بما يخدم تلك المعادلة المشار إليها، أما ما يتعلق "بنزع وتدمير" ترسانة الأسلحة الكيماوية فهو لحماية الكيان المحتل وحرمان إيران منه إذا ما وصل مدها للحدود الموضوعة، وهو ما استغلته روسيا "بدهاء" لتجريد أمريكا من ذريعتها للتدخل العسكري ولرد جزء مما حصل ليلة "فجر"، وها قد إنكشفت معظم مدخلات المعادلة البراجماتية التي تم نقاشها على مدى مقالات عديدة، فماذا بعد؟ أما وقد تم تحليل ماضي وحاضر تاريخ المنطقة العربية المعاصر، فإن وضعه في "إطار علمي متكامل" يقتضى استشراف المستقبل، والذي ينبغي أن يكون مقارباً للواقع وإلا فإن جوهر "الإطار العلمي" الذي أدعيه يعتريه خلل منهجي، وهو ما سيكون موضوع المقال التالي- بإذن الله.