ركوب الموج (3) : أمواج التنمية .. وطبق سلطة الخضار !
تذكرون حال "راكب الدراجة" الذي وصفته في المقالة الأولى من هذه المجموعة، في هذه المقالة تطبيق نموذجي لتلك "الصورة الذهنية" من حيث المعطيات واتجاه النتيجة النهائية.
فمما يثير الاهتمام أن "مؤسسة التفكير الرسمية" (أو "مركز الدراسة والبحث"، أو ما تم استخدامه من مرادفات أخرى لترجمة مصطلح: Think Tank) والمعنية بشئون التنمية الوطنية، قد احتوت "آلية العمل" فيها على "الفكر" أو ما يتم استعارته من موجات سائدة لها علاقة بالتنمية ويُصدّرها لنا من "تُستنبط" تلك الموجات من إنجازاتهم، فذابت الأفكار أو الموجات في الآلية وتم تشتيت أوصالها لصالح الأخيرة، فيما أن المفترض أن يحتوي الفكر تلك الآلية الجامدة وتطوير الأخيرة بما يحقق مضمون الأولى.
لعلي أبدأ بتوضيح مناسبة هذه المقالة للمقام الذي نحن بصدده، فالمقام هو أنه يفصلنا نحو أربعة أشهر عن اعتماد الوثائق التي سيتم بنهاية الفترة الزمنية لتنفيذها إكمال "نصف قرن من الزمان".. نعم (50) عاماً من برامج التنمية، والمؤشرات تُفيد أنه سيستمر استذكار ما يتم ترديده تماماً كما أوضحه أحد المسئولين الذين يمثلون الجهة المعنية بشئون التنمية الوطنية، مُكرراً من سبقوه ومن سيلحق بهم ومُلخصاً لكامل "جوهر الأمر"، فخلال الحوار المفتوح الذي نظمه نادي "الاقتصادية" الصحفي ونشرته صحيفة الاقتصادية الإلكترونية بتاريخ 22 سبتمبر 2010 م، أوضح ممثل الجهة المعنية أنه "إذا لم تكن لدينا آليات للتنفيذ، فإننا نتكلم عن أحلام" ومشدداُ على أن مشكلة الجهة المعنية بإعداد وثائق التنمية الوطنية هي "في التنفيذ ثم التنفيذ".
هكذا تم تجيير كامل المسئولية للجهات المنفذة لوثائق أعدتها لهم جهة حرصت على التمشي "بآلية عمل" أصبحت تحكم المختصين فيها "كطقوسٍ" يُحظر المساس بها بدلاً من أن يحكم "الفكر" تلك الآلية، ويبدو أن المهم بالنسبة للجهة التي مثلها ذلك المسئول في ذاك "الحوار التاريخي" هو أن "يُوقع" ممثلي تلك الجهات على محاضر الاجتماعات والوثائق النهائية التي تُعد لهم، وكم أتمنى أن أسمع رأي أي ممثل للجهة المعنية فيما لو أنه انتقل للعمل في أحد تلك الجهات الذي أعدت الجهة التي يمثلها وثائق تشغيلها، فماذا سيقول عن تلك الوثائق؟ كما أتمنى أن ألمس الذي تحقق منذ ذلك اللقاء؟ وما أتمناه أكثر أن أعرف طبيعة "آليات التنفيذ" التي أشار إليها المسئول ومن قبله ومن سيأتي بعدهم وما إذا كانت تتضمن صلاحية التأثير في التمويل "ومنعه" عن جهة التنفيذ في حال عدم الالتزام بما تضمنته الوثائق المعدة لها؟ ثم أتمنى معرفة طبيعة "آليات التنفيذ" التي سيتم بواسطتها إلزام القطاع الخاص فيما لا يتعلق بالمشاريع الحكومية؟
وهنا أعود مع القارئ الكريم بالذاكرة إلى تاريخ أبعد من تاريخ الحوار المفتوح إلى ما تضمنته وثائق الجهة المعنية بالتنمية الوطنية، فما تزال كل الوثائق السابقة تردد نفس الهدف الذي ساهمت الوثيقة الثانية في تحقيق جزء منه بما يزيد على ما حققته الوثائق الأخرى مجتمعة، فيما لم تتمكن الجهة المعنية بالتنمية بعد كل برامج التنمية التي تضمنتها الوثائق التي تقوم بإعدادها من المساهمة في إنتاج ما يُحقق الاكتفاء الذاتي (والمثال المستخدم هنا هو معيار واقعي لقياس مستوى التنمية المتحققة بعد أربع عقود ونصف منذ بدء برامجها) لمكونات "طبق سلطة الخضار"، وبخلاف ذلك فإن ما تم إنجازه، وكما أقر المسئول في إيضاحه، لا علاقة مباشرة لوثائق التنمية به إلا "رصداً" وتقريراً.
ها قد تم ركوب موجة "التخصيص" (والتي حققت بعض الجهات التنفيذية شيئاً من الانجاز فيها) وموجة "العولمة" (والتي حققت الجهات التنفيذية المعنية بالأمر إنجازاً معتبراً في شأنها) وموجة "التنمية المستدامة" وموجة "الاقتصاديات الكبرى" وموجة "الاقتصاد المعرفي" وموجات غيرها، وسيتم ركوب موجات أخرى ستظهر مستفبلاً، وبدلاً من النظر بتعمق إلى كيف تم الوصول لتلك الموجة؟ ما هي طبيعة تلك الموجة؟ وهل نحن مستعدون لركوب تلك الموجة؟، كما أوضحته في المقالة الأولى، ها هي الجهة المعنية بالتنمية تركب الموجة تلو الموجة دون تفكير عدا (وأعتذر هنا عن التعبير المستخدم) ما يشبه مواكبة "عروض الأزياء" التي لم تتمكن حتى من تقليد صنعها، وها هي مستمرة في طرح القضايا الاقتصادية ذاتها والاجتماعية ذاتها والإدارية ذاتها والبيئية ذاتها منذ بداية برامج التنمية، بل أن بعضها يزداد سوءاً لولا تدخل ولي الأمر شخصياً لمعالجتها، وإذا كان الأمر كذلك فما الحاجة لكل أولئك المتخصصين والخبراء والإداريين الذين يعملون في أجهزة تنفيذية مختصة.
"فجوهر الأمر" إذاً أن المسار الذي إتخذته الجهة المعنية بالتنمية معاكس لما هو مفترض بها أن تفعله، تماماً كما حصل مع "راكب الدراجة" فيما يتعلق "بالآلية" مقابل "الفكر" ونتيجة ذلك فيما يتعلق "بالتنفيذ" دون أن يعي "راكب الدراجة" مسببات ما يحصل، وإذا سنستمر في السؤال والتساءل وإعادة السؤال: متى سيتحقق هدف "تنويع القاعدة الاقتصادية"؟
لقد إتضح الجواب على ذلك من خلال "التجربة العملية المديدة" وهو: ليس قبل أن يتم استبدال أولوية "الآلية" والإجراءات وخطوات العمل "ودليل الإعداد" وما في حكم ذلك "بالفكر" والمنهج العلمي ومغادرة "البرج العاجي" إلى أرض الواقع، والاقتناع بمبدأ مراحل التدرج الطبيعي لتكوين المجتمعات وأنه "قانون طبيعي" لا يمكن تغييره، وإلا فسنستمر في ترديد ما أوضحه المسئول.
وأعود هنا للحاضر، وأنه لن يتم تنفيذ تلك الوثائق ليس لعدم وجود "آليات للتنفيذ" بل لأنها ليس لها علاقة لها بالواقع إلا "كسجل تاريخي"، وإذاً لو تضمنت "آليات التنفيذ" صلاحية التأثير فيما يتعلق بالتمويل الموضحة أعلاه لألغيت الجهة من التشكيلات الوزارية قبل أن يعي المسئولون فيها ما يحصل، وأما فيما يتعلق بالمستقبل فينبغي أن يُنظر لكل ما يُخصص وفقاً للوضع القائم من موارد (بشرية، زمنية، مالية وسواها) على أنه في الغالب "هدر" لموارد الدولة، ولا بد من إعادة النظر في المنظومة بكاملها وإلا فسنستمر في الحديث "عن أحلام" ونستمر في الدوران حول نفسنا حتى نسقط مكاننا من شدة الإعياء والدوار المزمن، وإلى مناقشة حقائق ركوب "موجة" أخرى- بإذن الله.