إذا لم تكن معي فأنت ضدي ؟
سألني: هل تنزعج إذا طلب أحد منك ألا ترسل له مقالاتك أو رسائلك؟ قلت: لا! فهذا أبسط حقوقه في أن يختار ما يريد. ولقد تعلمتُ هذا من قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟). والقصة الكاملة لهذا القول مذكورة في كتاب (الولاية على البلدان في عصر الخلفاء الراشدين).
إن علاقة الإنسان بالآخرين علاقة معقّدة، وتحتاج إلى كثير من الحكمة، وحيث أنه لا أحد منا معصوم، ولا أحد يحتكر الحقيقة، ولا أحد يمتلك الصواب وحده، فإنّ كل ما يصدر عن الإنسان يكون عرضة لأن يختلف الناس معه فيه. وهذا أيضاً حق من حقوقهم. فالبشر مختلفون في تفكيرهم وأفهامهم لأسباب عديدة. فنحن ننظر في وجوه الناس ولا نرى وجهين متشابهين تماماً، ويقول علماء التشريح بأنه ليس هناك مخّان متشابهان. وإذا كان وجه الإنسان متماثلاً بين أيمنه وأيسره من باب الجمال، إذ خلقه الله في أحسن تقويم، فإن المخ مخفي، ولذا فإنه ليس متناظراً بين اليمين واليسار.
ومن هنا فلا تجد نصفي مخ متشابهين. هذا من الناحية الخَلقية، وإذا أضفنا إلى ذلك اختلاف المحاضن التربوية، واختلاف البيئة، واختلاف الثقافة التي نهل منها كل واحد... ندرك لماذا لا يتطابق تفكير البشر، ولماذا يختلفون في نظرتهم إلى الأمور.
بعض الناس إذا أبغضوا شخصاً اختلفوا معه وإن أقروا في أنفسهم أن قوله صحيح. وبعضهم يختلفون معك فقط لأنهم أصحاب إيديولوجيا مغايرة، وبعضهم مزاجي لا تعرف متى يغير رأيه فيما تقول... وتتغير طريقة التعبير عن الاختلاف من شخص إلى آخر. فبعضهم يلتمس أجمل العبارات ليعبّر عن ذلك، وبعضهم يسلقك بألسنة حداد، وآخرون بين هذا وذاك.
لكن لماذا يوجهون النقد إليك؟ بعضهم ناصح أمين، وبعضهم يود أن يصرف الناس عن رأيك إلى رأيه أو رأي آخر، وبعضهم قد يفعل ذلك تحاملاً، فيتهمك في قصدك، ويشكك في نواياك، وبعضهم يود أن يصل معك إلى قواسم مشتركة... ومِن هؤلاء وأولئك مَن هُدي إلى الطيب من القول، ومنهم مَن يقول منكراً من القول وزوراً.
فما موقفي من هذا الطيف من الناس؟ علي أولاً ألا أفسر سبب الاختلاف! فلا أقول إنه يكرهني، أو يحتفر تفكيري، أو يزدري رأيي... بل أتصرف تصرف العقلاء، كما في القصة التي تُروى عن يونس بن عبد الأعلى، الذي اختلف مرة مع شيخه الشافعي، فقام يونس مغضباً وترك الحلقة وذهب إلى بيته. فلما أقبل الليل، طُرِق بابُ يونس. قال: قلت: مَن بالباب؟ قال: محمد بن إدريس. قال: فتفكرت في كل من اسمه محمد بن إدريس إلا الشافعي! فلما فتحت الباب، فوجئت به! فقال لي: يا يونس تجمعنا مئات المسائل وتفرقنا مسألة! ألا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة.
أما الحمقى، فإنهم يقولون لمن خالفهم: إذا لم تكن معي فأنت ضدي! وقد نُسبت هذه العبارة يوماً لمسؤول دولي كبير. وواضح أنها تجاوزٌ للحد وافتراء على الحقيقة. أما الأخطر منها فقول بعضهم: إذا خالفتني فأنت ضد الدين أو ضد الوطن أو ضد القضية أو أنت آثم أو خائن أو قد بعت القضية... فهذا تطرف وإرهاب فكري.
عندما أستمع لمخالفي برحابة صدر، قد أكتشف أني كنتُ فعلاً على خطأ، وقد تقنعني حجته فأنحاز إلى رأيه. وقد لا يحصل هذا، إذ ليس من الضروري أن يكون على صواب، أو ليس من الضروري أن أتفق معه فيما يقول، فربما يكون مخطئاً، أو متوهماً، أو قد فهم المسألة بطريقة غير صحيحة، أو ربما ليس لديه حجة فيما يقول... لكن الطريقة التي أمر بها القرآن (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، هي الطريقة المثلى للتعامل مع الناس، حتى وإن كانوا متحاملين.