حين تعول الداخلية على وعي الرأي العام

إن دراسات الرأي العام من أصعب دراسات العلوم الإنسانية، ما لم تكن أصعبها على الإطلاق، فهي دراسة لظاهرة معقدة ديناميكية، أي أنها ليست ثابتة على نتيجة واحدة تجاه قضية ما، ويعتبر علماء الرأي العام في أمريكا على سبيل المثال، وهي من أكثر الدول تقدما وخبرة في دراسات الرأي العام، يعتبرون أن "معظم استطلاعات الرأي العام ــــ الأمريكية المبنية على أسس علمية، ومحكمة ـــ أنها تعتبر مُضللة، لأنها تفشل في التفرقة بين آراء الناس التي يقدمونها دون تفكير أو بسرعة دون إتاحة الفرصة لهم للتمعن في إجاباتهم، وبين أحكامهم المبنية على التفكير والتمعن"، ويمتاز الرأي العام ــــ خاصة في المجتمعات التي تماثل مجتمعنا السعودي المتنوع ــــ بالغنى وعمق التفكير والمشاعر، وصعوبة الاكتشاف أو التحليل.
والحقيقة أننا في المملكة نعاني شحا شديدا في الدراسات العلمية المعيارية الجادة التي تقيس الرأي العام حول مختلف القضايا، خاصة تلك التي تعد ذات علاقة بقضايا فكرية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو أمنية، فضلا عن دراسات "تحسين الرأي العام" وهذه قضية أخرى ذات أهمية قصوى، وصعوبة أكبر.
يردد الكثير عبارات كـ "نشر الوعي" أو "حملات التوعية"، أو "محاربة الفكر الضال"، وكلها تندرج تحت مفهوم "تحسين الرأي العام"، لكن ما نراه على أرض الواقع أقرب ما يكون للاجتهادات غير المبنية على دراسات علمية تطبيقية معتبرة، فتفضي إلى نتائج أقل بكثير من الطموح، وبذلك فإني أعتبر مثل هذه العبارات والحملات ليست سوى "خدعة" نخدع أنفسنا بها، لنظن واهمين أننا نعمل على نشر الوعي، وفي معرض مكافحة الفكر الضال، لكن الوقائع والنتائج على الأرض ليست كما أردنا مع الأسف، وهذا طبيعي، نتيجة الارتجال، في وقت يعمل فيه العدو، وبعمليات مدروسة مخططة، على نشر الأفكار الضالة والمنحرفة، من خلال حرب دعائية وفكرية ممتدة منذ عشرات السنين، مستخدما التعليم، والمساجد، ووسائل الإعلام، التقليدية والجديدة، ولتتغلغل مثل هذه الأفكار في العقل الباطن لدى نسبة غير قليلة من أبناء المجتمعات المستهدفة، فتصبح عملية "نشر الوعي" و"محاربة الفكر الضال" أصعب بكثير مما نتخيل، ولا سيما أن كل تأخير في ذلك، أو عمل مرتجل غير مبني على أسس علمية، سيصعب أكثر من المهمة، لنجد أنفسنا في مواجهة لكارثة حقيقية.
أنا هنا لا أضخم من هول المشكلة، لكني في الوقت ذاته أرفض أن أقول بأن "الأمور بخير وطيبة، والرأي العام واع" لكل ما يحاك ضده، وأنا لم أقم، أو أطلع، على دراسات علمية واقعية لقياس الرأي العام، تحدد مدى هذا "الوعي" المتحدث عنه! لاسيما إن وضعنا نصب أعيننا أن الرأي العام أساسا متغير، غير ثابت. ودائما ما أردد ما ذكرته في المقالة السابقة حول ما توصلت إليه قناعات العديد من باحثي الرأي العام والدعاية، بأن "من السذاجة اعتبار أن الرأي العام المحلي، أو الأجنبي، يمتلك دائما وجهة نظر مبنية على معلومات مؤكدة، أو رأي متماسك بشأن المسائل ذات الصلة بالقضايا السياسية الوطنية والأجنبية، وأن الصلات المباشرة والفعالة بين الرأي العام والسياسات الحكومية ليست موجودة دائما" وهو ما اعتبروه ثغرة خطيرة، قد تتسلل عبرها دعاية العدو، ما لم تواجه بحزم، وهو ما أشرت إليه في دراسة لي من أن "التطور السريع في البنية التحتية لتقنية المعلومات والاتصالات والتي حولت طبيعة نقل المعلومات من أسلوب "الواحد إلى العديد" أوOne to Many إلى النموذج التفاعلي "العديد إلى العديد" أوMany to Many، أفرز لنا على الساحة، العديد من الفاعلين المستخدمين لهذه البنية الجديدة، مما زاد من خطورة تنامي "دوامة الصمت" في توجيه الرأي العام نحو اتجاهات قد تكون غير مبنية على حقائق، أي أنها مبنية على شائعات، وكذب، وتحريض، وتخريص؛ ما يعني أن على الحكومات أن تكون أكثر تفاعلا، وتلتفت للتواصل الشعبي، وخاصة عبر الإنترنت"، لا سيما إذا ما علمنا أن "الرأي" ليس سوى "وجهة نظر يبديها الشخص في أمر من الأمور"، فهو حكم فردي يختلف من شخص إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، لا يتردد الفرد في التخلي عنه إذا تغيرت الظروف، أو تحصل على معلومات جديدة. "وهذا الرأي يصبح عاما عندما يعلن عنه بطريقة من الطرق ويشترك فيه جمهور من الناس، يزيد عددهم أو ينقص، يعبرون به عن آرائهم الجماعية".
وهنا أجدني أعود لمصطلحات مهمة: "القوة الناعمة"، "الحروب الدعائية"، و"حرب المعلومات"!
بل وأكبر من ذلك وأخطر، هو ما نبهت إليه مرارا وتكرارا، من أنه وفي ظل تنامي الاعتماد على وسائل الإعلام الجديد وخاصة وسائل التواصل الاجتماعية كـ "تويتر وفيس بوك"، أو "واتس أب"، لدى أفراد المجتمع السعودي، وخاصة فئة الشباب منهم، وهم الأقل خبرة وعلما، والأكثر حماسة واندفاعا وربما تهورا، وفي ظل ما يمارسه رموز في الدعاية الخبيثة، عبر هذه الوسائل الحديثة، من محاولات مستمرة ومدروسة، تسعى إلى ضرب مصداقية مصادر التلقي الرسمية أو شبه الرسمية الموثوقة لدى الجمهور السعودي، بهدف التقليل منها، ونزع الثقة عنها، بل وصل الحال بكل ذكاء وخبث وخسة إلى "تخوينها" ووسمها بـ "الاسترزاق" تارة، وبـ "الصهيونية" تارات أخرى، والهدف من كل ذلك هو محاولة سيطرة العدو على عقول وقلوب الجماهير السعودية ــــ خاصة ـــ إذ هي المستهدف الأول والرئيس من هذه الحملات المسعورة المستمرة، والتي لم تجد التعامل الصحيح معها، بل وربما "التقاعس" في التعامل معها، ظنا من بعض المعنيين "غير الملمين بخطورة هذه "البروبجاندا" الخطيرة لعدم اختصاصهم"، بعدم تأثيرها في المجتمع، أو بضعف هذا الأثر، فإن ذلك كله يهيئ البيئة الخصبة لتنامي أثر "دوامة الصمت" وهي نظرية إعلامية خطيرة، وأثبتت نتائج الدراسات المتوالية صحة فروضها، حيث تقول النظرية من ضمن ما تقول، بأن عدد كبيرا من الأفراد داخل المجتمعات قد يكون لهم رأي أو اتجاه في موضوع معين، لكن لم تحن فرصة أو مناسبة ليبدوا وجهة نظرهم أو رأيهم. أو قد لا يكون لهم رأي أو اتجاه واضح بعد. وهؤلاء قد يشكلون غالبية يسميها البعض بـ "الصامتة"، أو "الواعية"، إلا أنهم حين يكتشفون "أو يتم إيهامهم بشكل أو بآخر عبر وسائل الإعلام وخاصة الجديدة كتويتر" أن هناك أكثرية تأخذ رأيا أو اتجاها آخر مخالف، "وقد أثبت دراسات موثوقة بأن هذه الأكثرية مختلقة وغير حقيقية، عبر معرفات وهمية، أو حتى أجنبية من خارج السعودية، لكن هدفها خلق حالة من رأي عام "مُضلل" وتيار عارم غير حقيقي بهدف الإيحاء بشيوع رأي ما أو فكرة ما داخل المجتمع المستهدف" فإنهم "أي الأفراد الحقيقيون" يسكتون، أجل، يسكتون، ويخفون رأيهم "المخالف لما يعتقدونه السواد الأعظم في المجتمع" وربما مع الوقت يتم تبني هذا الرأي أو التوجه الذي كان مخالفا تماما لتوجهاتهم ومعتقداتهم الحقيقية الأولى، أي إنهم ما يلبثون أن يجرفهم معه هذا التيار المختلق، أو هذه "الدوامة" المصطنعة، فيحقق "العدو" مبتغاه. وللحديث بقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي