جبهتنا الداخلية .. والخطر المحدق

الدعاية أو "البروبجاندا" سلاح فتاك خطير، لا يعي مقدار خطره وفتكه كما يعيه المختصون، فقوة هذا السلاح تتمثل في تحقيقه لما تعجز عنه جيوش جرارة، بمُشاتها، ومدفعيتها، وصواريخها، وطائراتها، وبارجاتها! بل لا أبالغ إطلاقا إن قلت إنه "سلاح دمار شامل"، أمضى فتكا وقوة من السلاح النووي! بل هو أمضى منه بكثير! وهذه حقيقة، لا مبالغة ولا خيال، حقيقة يعلمها العدو، ويعمل وفقها، ويستخدمها بدهاء، فيا ليت قومي يعلمون، ويعملون بمقتضى ذلك ويكافحونه بتخطيط مدروس، بقوة وحزم وعزم.
"حرب الكلمات"، "الحرب الباردة"، "الحرب الأيديولوجية"، "حرب المعلومات"، "حرب الأعصاب"، "الحرب النفسية"، جميعها مصطلحات متعددة تشير إلى أداة قذرة واحدة .. إنها "الدعاية".. تجعل الأبيض أسود! والأحمر أخضر! ويصدقها الناس!
تجعل الحق باطل! والباطل حقا! والمسلم الوطني المخلص الغيور يضحي صهيونيا، وخطابه ونصحه ورأيه يوسم بـ "المتصهين"! والمتصهين الحقيقي أصبح "إسلاميا" يوزع تُهم "التصهين" بخبث ومكر، تحقيقا لأهداف العدو، مُدعيا الغيرة على الإسلام والوطن والمواطن! ومتحدثا باسم الوحدة، والجماعة، باسم الدين وباسم الله! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا! أفلا ترى "حزب الله" و"أنصار الله" و"جند الله" و"الجهاد الإسلامي" و"الإخوان المسلمون" و"المقاومة الإسلامية" و"الدولة الإسلامية" و"فيلق القدس" و"سرايا القدس" و"بيت المقدس" و"قاعدة الإسلام" أو "قاعدة الجهاد الإسلامي"! أساليب دعائية رخيصة، يستخدم فيها عدو الدين والوطن اسم "الله" و"الدين" لتمرير أجندات خبيثة شريرة، تفت في عضد الأمة، وتنشر السم الزعاف.
"الدعاية" سلاح يستخدمه العدو في الحروب النفسية بهدف الحط من معنويات أفراد المجتمع المخاطب، وإشاعة جو من "السوداوية" والكآبة، والسلبية، عبر بث الأخبار السيئة، وتكبيرها، أو حتى اختلاقها، والتقليل من المنجزات والنجاحات والأخبار الجيدة، وتحجيمها، أو نسب الفضل فيها لغير أهله، أو تجاهلها بالكلية، والاستمرار في هذا النهج، وصولا إلى تسريب حالة من الإحباط واليأس والقنوط بين القطاعات الجماهيرية المستهدفة. كما تسعى دعاية العدو إلى محاولة بث روح الفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، وإيجاد شرخ داخل الدولة الهدف، لتمزيق وحدة المجتمع من الداخل، وإضعاف الثقة فيما بين المواطنين وبعضهم من جهة، وبين المواطن والمسؤول من جهة، بل بين المسؤول والمسؤول، والمسؤول وطاقمه العامل معه من جهة ثالثة، وذلك بالتوازي مع سعيه إلى تجريد الخصم من الحلفاء، أو تحييدهم على الأقل.
ولكي يستطيع العدو تحقيق هذا المأرب الخطير، لا بد له من القدرة على السيطرة على العقول والقلوب، وتوجيه الجماهير فيما يخدم تحقيق مصالحه، ولا يستطيع لذلك سبيلا، إلا عبر خلق فجوة، يتسلل من خلالها، بين أفراد المجتمع، وبين مصادر التلقي الموثوقة والرصينة لديهم، الرسمية أو شبه الرسمية، هذه المصادر التي تقدم المعلومات الصحيحة، وتفسر الأحداث بموضوعية، وتكافح "بالكلمة" هذه الدعاية الخبيثة، والأفكار الضالة، وتفندها. ولإيجاد مثل هذه الفجوة، يمارس العدو أساليب شيطانية ماكرة، تستهدف إما السيطرة على هذه المصادر واختراقها من الداخل، أو التقليل من قيمة هذه المصادر، ونزع الثقة عنها، عبر وسمها بالاسترزاق والانبطاح والتطبيل تارة، أو بالعمالة للصهيونية تارة أخرى! ولينطبق على هذا الأسلوب قول الأول: "رمتني بدائها وانسلت"!وهنا وفي حالة نجاح "نزع الثقة" عن المصادر الموثوقة، سيبحث المواطن البسيط العادي على مصدر آخر يشبع من خلاله حاجاته المعرفية والعلمية، ويوصل له الأخبار، ويفسرها له، فيتم تزيين مصادر العدو مرة أخرى، بعد أن ترتدي لبوس الدين والوطن، لتكسب الثقة، ومن ثم يتم عبرها التحكم بالرأي العام! وليصبح الرأي العام الداخلي، والجبهة الداخلية برمتها، مخترقة، وعلى شفا خطر محدق، نتيجة سيطرة العدو على عقول وقلوب الجماهير، وسط سلبية مطبقة لم تتعامل مع أدوات العدو وأبواقه في الداخل كما يجب، كونهم عملاء خونة.
قلت في المقالة السابقة إن الركون لوعي الرأي العام الداخلي غير صحيح ألبتة، خاصة إذا ما علمنا أن "الرأي العام" متغير وغير ثابت، وأن ثورة تقنية المعلومات والاتصالات سهلت من عملية إيصال دعاية العدو للجماهير المستهدفة في الداخل السعودي، وأن درجة اعتماد المواطن السعودي على أدوات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد بالمجمل، قد ارتفع بشكل دراماتيكي ملحوظ، حتى أصبحت مثل هذه الوسائل هي من أهم مصادر التلقي لدى السعوديين، وخاصة فئة الشباب منهم، وأن العدو ما فتئ يسعى لتضليله، واختطافه، بل استخدم أساليب علمية مخططة ومدروسة في سبيل تحقيق هذا الهدف، حيث لم يكتف على بث الدعايات التضليلية من خارج المملكة، لعلمه بضعف مصداقيتها لدى الشارع السعودي، فعمل على تجنيد عملاء له بالداخل - سواء أكان تجنيدا مباشرا، أم غير مباشر، سلبيا أم إيجابيا بحسب لغة الاستخبارات - ليبثوا دعايته التضليلية، كونهم أكثر مصداقية مما لو جرى بث هذه الدعاية من الخارج، أو عبر أسماء مجهولة.
إننا وفي الذكرى 84 ليومنا الوطني المجيد، وتأسيس دولتنا المباركة الثالثة، بعد سقوط دولتنا الأولى، فالثانية، ننظر إلى الدول من حولنا في المنطقة، لنجد الفتن والحروب والدمار والضياع، ونجد أطماع العدو غدت شاخصة، واضحة للعيان، لنستذكر قول الإمام المؤسس ـــ عليه رحمة الله: "الحزم أبو العزم أبو الظفرات، والترك أبو الفرك أبو الحسرات" حكمة عظيمة قالها رجل نادر فذ من واقع خبرة ودراية، حكمة تكتب بماء الذهب لوالد السعوديين جميعا عبد العزيز بن عبد الرحمن - طيب الله ثراه. أجل، فإما الحزم والعزم مع عملاء الداخل المسوقين للدعاية الخبيثة، فالظفر، وإلا فالحسرة والندامة، ولات ساعة مندم.
وصدق نايف بن عبد العزيز - عليه رحمة الله - حين وَصّانا فقال: "أقولها بكل وضوح وصراحة، نحن مستهدفون في عقيدتنا، نحن مستهدفون في وطننا، أقول بكل وضوح وصراحة، لعلمائنا، الأجلاء، ولطلبة العلم، ولدعاتنا، وللآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولخطباء المساجد، دافعوا عن دينكم قبل كل شيء، دافعوا عن وطنكم، دافعوا عن أبنائكم، دافعوا عن الأجيال القادمة، يجب أن نرى عملا إيجابيا". وهو الأمر ذاته الذي بسببه لام خادم الحرمين الشريفين هيئة كبار العلماء على "كسلهم"، إلا أن عميل الداخل المسوق للدعاية الخبيثة لا يفيد معه إلا جزاء الخائنين، ولنا في تجربة الصين خير مثال. وكل عام ونحن ننعم في هذا البلد الطيب الطاهر بالخير والأمن والنماء والازدهار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي