متلازمة النفط والإسكان
غني عن القول أن الاقتصاد السعودي يرتكز على النفط كمصدر رئيس لإنتاج الثروة، هناك مصادر أخرى بعضها لها علاقة بالنفط كالصناعات البتروكيماوية ومنها غير النفطي كاستخراج المعادن وصناعة الأسمنت والحديد، والصناعة الغذائية وغيرها، التي تعتبر صناعات مستقلة عن النفط، لكن هذه الصناعات لم تستطع أن تصبح مصدرا رئيسا لإنتاج الثروة في المملكة من حيث الحجم ومن حيث القدرة على التوزيع بين شريحة واسعة من أبناء الوطن والعاملين على أرضه ممن أسهموا في إنتاج هذه الثروة. ولذلك فإن العلاقة تبدو واضحة بين مستويات الإنفاق على المساكن من جانب وبين النفط وأسعاره من جانب آخر. فكلما زادت أسعار النفط زاد الدخل، ومن ثم تمكن المواطن من زيادة الإنفاق للحصول على مسكن، فهل هذه العلاقة واضحة تماما لتؤثر في مستويات العرض والطلب على المساكن وبالتالي الأسعار؟ وهل هي واضحة لنا بما يكفي لمعالجة الاختلال في هذه السوق؟
المسألة ليست بهذا التبسيط، فأسعار البترول لا تؤثر مباشرة في أسعار المساكن إذا لم يرغب المجتمع في زيادة الإنفاق على المساكن، أو - وهذه هي الإشكالية - لم يكن قادرا على ذلك فعلا. بمعنى آخر فإن زيادة أسعار النفط تقود إلى زيادة الدخل، لكن قرار توجيه الدخل نحو الإنفاق على أي خدمة أو سلعة أو الاحتفاظ به هي مسألة الحاجات الأساسية التي وصفها “مسالو”. فإذا كان معظم الناس بحاجة إلى شراء المسكن، لكنهم لا يستطيعون ذلك فإنهم بطبيعتهم يتجهون لتلبية الحاجات الأساسية الأخرى والبحث عن بدائل مناسبة.
واجهت المملكة مشكلة في توافر المساكن، خاصة لفئة الشباب وهي الفئة الأكبر من فئات المجتمع، كما أن الأسرة السعودية تتجه إلى بناء أسر صغيرة مستقلة، ولهذا فإننا منشغلون جدا بإيجاد فرص عمل لهؤلاء الشباب وأيضا إيجاد مساكن مناسبة لهم، لكن مشكلة البطالة ليس لها علاقة مباشرة بمشكلة توافر السكن بل بنوعية ذلك السكن وقدرة الحصول عليه، فالقدرة الشرائية للناس هي التي تحدد مستويات الاستثمار سواء من قبل الدولة أو من قبل القطاع الخاص. ولهذا فإن النقاش حول مشكلة السكن معقد فتزايد الحاجة للسكن ليس المحرك المباشر للطلب، بل لا بد مع الحاجة إلى السكن من وجود قدرة على الدفع. هذه النقطة بالذات تم التغافل عنها عندما اندفع الجميع نحو شراء الأراضي من أجل استثمارها في بناء الفلل والمساكن، فارتفعت أسعار الأرض كمدخل أساس في تكلفة المساكن وبذلك ارتفعت أسعار المساكن الجديدة بشكل ملحوظ جدا، ولأننا كنا نمر بطفرة نوعية في أسعار النفط والاحتياطيات النقدية في مستويات قياسية، فقد كان الحل السهل لمشكلة عدم القدرة على الدفع مع الحاجة إلى السكن تكمن - كما اعتقد الكثير - في ضخ المزيد من السيولة للناس. وبهذا اندفعت المؤسسات الائتمانية والمصارف في تقديم قروض خيالية وطويلة الأجل للحصول على المسكن، فتم تصحيح جانب الطلب بشدة لكن دون مراعاة مرونة جانب العرض، فارتفعت أسعار المساكن بشكل غير مسبوق وزاد الطلب على الأراضي المعدة للبناء والمخططات المطورة حتى لامست أسعارها مستويات قياسية جدا، وأصبح ضخ المزيد من النقد في أيدي الناس بلا جدوى، خاصة مع استمرار ارتفاع معدلات البطالة. لقد استطاعت مؤسسات الإقراض أن تلبي حاجة شريحة معينة من المجتمع لكن الأسعار مع الضخ النقدي تجاوزت حتى قدرة هذه الفئة فعادت المشكلة إلى وضعها الأول حاجة ماسة للمساكن مع توافر القدرة الاستثمارية للبناء، لكن لا يوجد مقدرة على الدفع، وتبين أنه كلما تم ضخ المزيد من النقود إلى السوق فإن فئة جديدة من القادرين على الشراء سوف تخرج وتصبح غير قادرة على ذلك مع مرور الوقت، وأصبح ضخ النقد مهما توافر بسبب ارتفاع أسعار النفط، يتسبب في زيادة الحاجة إلى المساكن لكن ليس القدرة على شرائها.
لقد تسببت أسعار النفط المرتفعة في زيادة السيولة النقدية عند مؤسسات الإقراض، لكن لم تكن تلك السيولة متوافرة لدى الكثير من فئة الشباب وهم المحرك الأساسي للطلب على المساكن. لقد تسبب ارتفاع أسعار النفط في ارتفاع تكلفة البناء نظرا لارتفاع تكلفة جميع المواد الخام ومنها الأرض، ولهذا ترتفع أسعار المساكن كلما ارتفع سعر النفط، وتزداد الفجوة بين القدرة على الشراء والحاجة إلى المسكن. لقد كان سائدا أن سبب ارتفاع أسعار المساكن هو زيادة الطلب ونقص في المعروض، لكن تبين أن المشكلة أعقد وأن العلاقة بين العرض والطلب تكمن بينها علاقة مخفية بين الحاجة إلى المسكن والقدرة على شرائه.
لقد بدا لنا الحل في توفير سكن بتكلفة رخيصة، وهذا يعني إعادة النظر في طريقة توزيع دخل النفط لمعالجة مشكلة المساكن، فعدنا طوعا لتجربة التدخل الحكومي التي تعمل على منح الناس أرضا مجانية وقرضا طويل الأجل بلا فوائد من أجل بناء السكن هذا هو مشروع وزارة الإسكان الذي تعهدت من خلاله بتوفير 650 ألف وحدة سكنية خلال السنوات المقبلة. هذا هو الحل نفسه الذي نجح في فترة ما بعد الطفرة النفطية الأولى في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لكن لماذا لم نعمل وفقا لهذا المسار منذ البداية؟
مرة أخرى تظهر مشكلة الاقتصاد السعودي الرئيسة وهي الاعتماد على مصدر وحيد للثروة وهو النفط، لكن ثروة النفط هذه لا تنتج عن قوة العمل. فالعمال الذين يتزايد عددهم من شباب وغيرهم لم يسهموا في إنتاج هذه الثروة، بل فقط هم مستهلكون لها. لقد حاولت الدولة مرارا أن توزع إيرادات النفط بطرق من المفترض أن تعزز آلية عمل الاقتصاد الذاتية، وتشجع القطاع الخاص على أن يمسك زمام المبادرة، وعلى الرغم من مثالية النظرية لكن خطأ ما وقعنا فيه - غير واضح تماما - تسبب في تزايد البطالة على الرغم من كل هذه الجهود وتسبب في الوقت نفسه في ارتفاع أسعار المساكن بشكل غير مسبوق، مع بقاء الحاجة إلى السكن وعدم القدرة على شرائه. في المدى المتوسط ستتراجع أسعار النفط، فهل ستتراجع قدرة الدولة على المضي قدما في مشروع وزارة الإسكان، ومع بقاء الحاجة إلى السكن بل ازديادها على هذا المدى، وعدم قدرة القطاع الخاص على العمل كما يجب، فهل التدخل الحكومي اليوم يعد حلا مثاليا؟ ستبقى هذه الأسئلة مفتوحة بلا إجابات، لكن الحقيقة الماثلة أمامنا أن أزمة السكن بلا حل قريب.