«أوبك».. منظمة تحمل هموم الاقتصاد الدولي .. ودور سعودي محوري

«أوبك».. منظمة تحمل هموم الاقتصاد الدولي .. ودور سعودي محوري

لا يتصور سكان العاصمة النمساوية فيينا الهادئة والراقية والجميلة أن المبنى الزجاجي الواقع في قلب العاصمة ويحمل علامات المعاصرة والحداثة وسط العديد من المباني التاريخية هو كتلة لهب متوهجة في الداخل بسبب الأحداث الاقتصادية الدولية المتلاحقة وبسبب ديناميكية ونشاط فريق العمل بداخله.
المبنى يقع في منطقة شوتينرينج الشهيرة في العاصمة ويحاط بالمباني العتيقة التي تمثل لوحات فنية من تراث النحت والتصميم في العصور الوسطى خاصة مبنى البورصة النمساوية المجاور.. ويشعر الزائر الجديد عندما يرى البورصة النمساوية و”أوبك” بأن عينيه عبرتا عبر صفحات التاريخ من التراث إلى الحداثة.
وتتسم منظمة أوبك بالإجراءات الأمنية المشددة بسبب حساسية عملها وثقلها الدولي وهو ما يضيف تفردا لها عن بقية مباني المنطقة التي نادرا ما نجد فيها عناصر الأمن بهذه الكثافة. و”أوبك” على موعد كل عام مع مناسبتين مهمتين تستنفر فيهما كل طاقات فريق العمل ويزدحم المبنى بالزوار والوافدين من كل دول العالم، والمناسبتان هما اللقاءان الشتوي والصيفي لوزراء النفط للدول الأعضاء في الاجتماعات الوزارية الدولية، التي بلغت في الاجتماع الأخير في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي 166 اجتماعا.
ولا شك أن الاجتماعات في أوقات الأزمات لها طابع أكثر توترا وترقبا عن الاجتماعات التقليدية التي تجيء في أوقات الرخاء.. وعبر أربع سنوات مضت تمتع النفط الخام بالأسعار العالية ووفرة الأرباح للدول المنتجة حتى جاء حزيران (يونيو) 2014 وبدأ معه الانهيار المدوي، الذي وصلت معه الخسائر إلى نحو 50 في المائة حتى الآن.
عقول الاقتصاديين وحسابات المختصين وميزانيات الدول والشركات والمتعاملون في البورصات تعلقت بالاجتماع الأخير في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي انتظارا للقرار الصعب وترقبا لما سيقوم بها وزراء المنظمة الـ 12.. وحمل الاقتصاديون في كل العالم المنظمة ما فوق قدراتها وطاقتها واعتبروها بوصلة الاقتصاد الدولي.
جاء القرار المفاجئ ببقاء الإنتاج والسياسات وكل الأمور على ما هي عليه وهو ما صدم الأوساط الاقتصادية وحاول الكثيرون تحميلها تبعات التراجعات اللاحقة والحادة في الأسعار، وتناسوا أنها ليست اللاعب الأوحد في السوق وأنها تمتلك فقط ثلث الإنتاج العالمي وأن الأزمات سببها المنتجون من خارجها.
أروقة “أوبك” اكتظت في ذلك اليوم المشهود بأعداد غفيرة من الصحافيين والمحللين منذ الصباح الباكر.. كثافة لم تشهدها “أوبك” من قبل الكل.. في لهفة وتشوق للقرار.. الجميع يطارد الوزراء انتظارا لمعلومة هنا أو هناك تروي ظمأ السوق المتعطش للجديد والخائف من المستقبل.
ملامح القلق ارتسمت على وجوه جميع الوزراء.. خلافا عن الاجتماعات السابقة.. الجميع يرفض الإدلاء بأي معلومات.. الوزير السعودي كان قويا وواثقا كالعادة ومال إلى الطمأنة ولكنه كان يهرب من الإعلام في أغلب الأوقات.
بقية الوزراء كانوا يتحدثون بصعوبة شديدة ويميلون إلى الإجابات شديدة الاقتضاب خوفا من تصريح هنا أو هناك يقلب موازين الاقتصاد الدولي الذي يسبح وسط أمواج عاتية. أول ابتسامة تلقاها المحللون والإعلاميون كانت بعد خمس ساعات من الانتظار الطويل.. كانت من عبد الله البدري الأمين العام الذي دخل قاعة المؤتمر الصحافي واثقا وهادئا ومبتسما كعادته في كل الاجتماعات وخاصة في الاجتماع الأخير، ليعلن للجميع بقاء الإنتاج وينهي حالة من الترقب والتوتر التي استمرت أسابيع طويلة قبل عقد هذا الاجتماع التاريخي.
كما أنهت تصريحات البدري في ذاك اليوم حالة من الهمهمة والترقب الطويل والأحاديث الجانبية بين الإعلاميين وبين المحللين.. كل يعرض تصوراته وتوقعاته وينكب على حاسبه ليسابق الزمن في إرسال الجديد لوكالته أو جريدته وسط حضور واسع لكبريات وسائل الإعلام في العالم وأشهر وكالات الأنباء العالمية.
“أوبك” التي تأسست عام 1960 بخمس دول قبل أن تتوسع في السنوات اللاحقة لتصل إلى 12 عضوا وانتقل مقرها في الستينيات من جنيف ليستقر في فيينا سيكتب تاريخها أنها في عام 2014 وبعد 54 عاما شهدت واحدا من أخطر وأهم الظروف الاقتصادية الدولية الدقيقة وأنها تعاملت مع الموقف بحكمة وترو وضبط نفس، وبالنظر إلى المستقبل وليس بالنظر إلى مكاسب وقتية قريبة.
لم تلجأ “أوبك” للتدخل السريع بتخفيض الإنتاج لرفع الأسعار بل نظرت بشكل متعمق لأوضاع السوق ورأت ضرورة الحفاظ على الحصص السوقية والتضحية بالأسعار حتى يخرج منتجون وافدون تسببوا في انهيار الأسعار.
وعلى الرغم من تباين مواقف الدول الأعضاء تجاه الأزمة الأخيرة إلا أن “أوبك” حافظت على قوتها وتماسكها أمام هذه الرياح القوية التي حاولت أن تزج بالخلافات السياسية في منظومة عملها وتزرع الفرقة بين الدول الأعضاء. وأبرزت الأزمة الراهنة دور القائد السعودي البارز، حيث نجحت السعودية في توحيد الصفوف وتعميق التفاهم حول مواقف موحدة لمصلحة المنظمة والدول الأعضاء والاقتصاد الدولي بشكل عام.
حرصت السعودية على إجراء لقاءات ناجحة مع الأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي والتقوا جميعا في ضيافة الوزير السعودي على النعيمي في مقر إقامته في فندق جراند أوتيل في فيينا عشية انطلاق الاجتماعات وخرج الجميع من الاجتماع ليؤكدوا على التفاهم ووحدة الصف وهو ما تبلور في الاجتماع التاريخي في اليوم التالي.
كما أجرت السعودية تفاهمات ناجحة أيضا مع روسيا وهي الدولة العملاقة ومن أكبر المنتجين من خارج “أوبك” كما أجرت تفاهمات مع الشركات الكبرى وكانت الاجتماعات يسودها الود والتلاقي والتفاهم السريع.
وقامت السعودية وهي الدولة القائدة بإقناع الجميع بمن فيهم أصحاب الرؤى المختلفة ليخرج القرار بالإجماع ليس لمصلحة طرف على حساب طرف بل لمصلحة المنظمة والدول الأعضاء والاقتصاد الدولي وهي الأهداف الرئيسة لهذه المنظمة العريقة.
وسيبقى الدور السعودي محوريا عبر تاريخ “أوبك” كدولة مؤسسة عام 1960 حيث كانت وما زالت أكبر منتج وأيضا كقائد للسفينة في وقت الأزمات للعبور إلى الاستقرار والتنمية المنشودة لجميع الدول.

الأكثر قراءة