صادرات الغاز .. وعلاقات السياسة العالمية
الأحداث الأخيرة في عام 2014 في أوكرانيا، إضافة إلى أنها أثارت أكثر الأزمات السياسة حدة بين روسيا والغرب منذ نهاية الحرب الباردة، وأدت إلى مجموعة من العقوبات السياسية والاقتصادية ضد روسيا في مجال الطاقة والبنوك وقطاعات الخدمات، تنطوي على إمكانية التأثير بصورة لا يستهان بها على التطور المستقبلي لأنماط التجارة العالمية المرتبطة بتصدير الغاز الطبيعي.
ورغم أن أسواق الغاز في شرق آسيا كانت في سبيلها إلى التفوق على سوق الغاز الأوروبية من حيث الحجم والجاذبية بالنسبة لكثير من البلدان المصدرة للغاز، إلا أن آثار الأزمة الجيوسياسية الحالية في أوكرانيا يمكن أن تعمل على تسريع هذا الاتجاه العام، حيث إن شركات التصدير الروسية تحول اهتمامها بصورة متزايدة إلى الشرق. والواقع أن اتفاقية عام 2014 لتصدير 28 مليار متر مكعب من الغاز من روسيا إلى الصين على مدى 30 عاما هي مثال على "التمحور" الروسي نحو الشرق. مثل هذا الاتجاه ينطوي على مضامين عميقة بالنسبة لحركات التجارة الدولية في الغاز الطبيعي، ويمكن أن يؤدي إلى إحداث اضطراب في الحصة السوقية بين المزودين الرئيسيين، وهو أمر يصعب التنبؤ بنتيجته. كذلك تنطوي هذه التغيرات على فرص ومخاطر بالنسبة لروسيا وزبائنها الأوروبيين الحاليين فيما يتعلق بالتجارة العالمية للغاز الطبيعي، وسنتوصل في هذا المقال إلى بعض الاستنتاجات حول الكيفية، التي يرجح فيها للتطورات الحالية أن تؤثر في مستقبل التجارة وأنماط الاستثمار.
وسنتناول بالتحليل اتجاهات إنتاج الغاز في الشرق الأوسط – وهي منطقة تتمتع بمكانة تؤهلها للتنافس في أسواق الطاقة في أوروبا وآسيا.
من الناحية التقليدية، ينظَر إلى بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على أنها تتمتع باحتياطيات نفطية هائلة، ولديها أيضا احتياطيات من الغاز تلعب دورا لا يستهان به. ومجموع احتياطيات الغاز في بلدين من أعضاء أوبك، وهما قطر (25 تريليون متر مكعب) وإيران (36 تريليون متر مكعب) يفوق مجموع احتياطي روسيا وتركمانستان (51 إلى 56 تريليون متر مكعب) في عام 2012. تستهلك إيران معظم إنتاجها من الغاز، في حين أن قطر تصدر الغاز الطبيعي المسال إلى آسيا وبريطانيا، في الوقت الذي تحاول فيه الوصول إلى قدر أكبر من سوق أوروبا.
تتولى شركة قطر غاز أعمال الغاز الطبيعي منذ 1984. وفي عام 2014 أصبحت أكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم، حيث كانت قدرة الإنتاج السنوية 42 مليون طن، وهو تعمل على تحقيق رؤيتها لتسليم الغاز إلى زبائنها حول العالم من مرافقها ذات المستوى العالمي في قطر. مدينة راس لفان الصناعية، التي تبلغ مساحتها 295 كيلومترا مربعا، تضم أكبر مجمع لمعامل الغاز الطبيعي المسال وأكبر ميناء للغاز في العالم. وحيث إن عدد سكان قطر ليس بالكبير، فإن بمقدورها تصدير الغالبية العظمى من الغاز الذي تنتجه إلى بقية العالم.
#2#
المبادرات الأخيرة من الاتحاد الأوروبي حول زيادة توليد الطاقة من الموارد المتجددة، ورغبة أوروبا في تطوير إنتاجها الخاص من الغاز الصخري، سيؤثر قليلا على موقع قطر. وتزود قطر بريطانيا بالغاز، رغم أنه كان هناك تراجع في الاستهلاك خلال 2013 – 2014. وتهدف "قطر غاز" إلى أن تصبح أبرز شركة في العالم للغاز الطبيعي المسال هذا العام، وهو هدف يتم تنفيذه في الوقت الحاضر، وإن يتم بصورة بطيئة. ترتبط القوى الاقتصادية والسياسية بصورة وثيقة بقطاع الطاقة، وأدت إلى إحداث تقلبات عنيفة في تطوير هذه الصناعة الحيوية.
وهناك نوع من المفارقة في أن الأسواق المالية للطاقة، التي أنشئت أصلا بهدف تثبيت الاستقرار وإدارة المخاطر، أدت حتى إلى اختلالات أكبر في القطاع. من الناحية التاريخية كانت الأحداث الجغرافية السياسية تحرك أسواق الطاقة، وستظل هي التي تدفعها، إلى جانب أنها تحرك اتجاهات التجارة والتحالفات الخاصة بالأعمال. أزمة أوكرانيا ليست الأزمة الأولى ولن تكون الأخيرة في سلسلة المواجهات التي لا تنتهي بخصوص المصالح الرئيسية لنخبة القوى التي لديها "مكوِّن الطاقة". العراق وليبيا هما مثالان آخران على البلدان التي تتقاطع فيها الأهداف السياسية مع إنتاج الطاقة، وتخلق عدم الاستقرار في الناتج.
ورغم أن الاعتبارات السياسية يمكن أن تفوق في وزنها الاعتبارات الاقتصادية فيما يتعلق بالتجارة العالمية للغاز الطبيعي، إلا أنه من وجهة نظر اقتصادية سيكون للفشل في استمرار الوضع الراهن في العثور على أرضية مشتركة مع أوكرانيا بخصوص عبور الغاز الروسي إلى أوروبا، ستكون له عواقب كثيرة. من أجل أن تضمن أوروبا أمن إمدادات الطاقة إليها، سيتعين عليها أن تزيد من مشترياتها من الغاز الطبيعي المسال (والتي تعتبر بموجب الظروف الحالية في السوق أكثر تكلفة من غاز خطوط الأنابيب) وتستثمر في مرافق مكلفة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، وما يرتبط بذلك من بنية تحتية. بالنسبة إلى روسيا، ستكون النتيجة هي مشاريع للبنية التحتية للغاز، التي ستكون غير ضرورية بخلاف ذلك، إلى جانب الاستثمارات المكلفة في البنية التحتية والتكنولوجيا اللازمة للغاز الطبيعي المسال. من جانب آخر، ستكسب كل من أوروبا وروسيا المزيد من المرونة في العلاقات المتبادلة في الطاقة، التي أثبتت صلاحيتها على مدى عدة عقود.
من هذا المنظور، تعتبر منطقة آسيا الباسيفيك سوقا جديدة لروسيا، وبصرف النظر عن مدى الجاذبية التي يمكن أن يبدو عليها النمو الاقتصادي في الصين، فإن أول تقييم بخصوص ما إذا كان هذا مشروعا ناجحا، لا يمكن القيام به إلا بعد أن يتم إنشاء البنية التحتية الضرورية، وتصل الصادرات إلى وجهتها النهائية.
السؤال المحيط بنقل موارد الطاقة، وحماية البنية التحتية الحساسة والمهمة للطاقة، ومدى قوتها ومتانتها، ستظل من الأمور البارزة في الوقت الذي تلعب فيه هذه القضايا دورا حيويا في تأسيس وتوجيه التوازنات التجارية لكل من البلدان المصدرة للطاقة والبلدان المستوردة لها، وسيكون لها تأثير أكبر على أسعار النفط والغاز العالمية. من هذا الباب، فإن مقارنة آليات التكامل ضمن الاتحاد الأوروبي ومنطقة آسيا الباسيفيك تثير الأسئلة التالية: ما مدى جودة التنسيق بين الإجراءات المتخذة ضمن بلدان الاتحاد الأوروبي ومنطقة آسيا الباسيفيك في المستقبل، وما الاتجاه الذي ستختاره روسيا ليكون تركيزها الرئيسي بالنسبة لمصالحها الاستراتيجية الخاصة؟.
*رئيسة مجموعة الخبراء الدولية للطاقة ومقرها فيينا ومحللة نفطية
**خبير في المنظمات الحكومية ذات العلاقة بالطاقة