الحكومة الإلكترونية كانت حلما .. هل تحقق؟
زرت جوازات الرياض قبل أسابيع وكنت مهموما لترقب ساعات الانتظار في تلك الصالة المقيتة في انتظار نداء لرقم أحمله، فوجئت أن كل ذلك الهم لم يعد له وجود، لم يكن ذلك بسبب تقنيات عالية مستخدمة ولا تغييرا في أداء الموظفين، أو تحفيزا لهم، كل ما حدث أن الحضور للجوازات لاستخراج الجواز أصبح بموجب موعد إلكتروني عن طريق بوابة وزارة الداخلية، فتحول الحال من انتظار ساعات إلى مهمة سلسة لا تتجاوز 15 دقيقة.
تنظيم المواعيد إلكترونيا ترتب عليه تخفيف ازدحام السيارات في منطقة جوازات الرياض، إضافة إلى توفير آلاف من ساعات المواطنين الضائعة بسبب تكدسهم في غرف انتظار نداء الأرقام لساعات طويلة، ورضا المواطنين عن أداء الخدمة وتحسن نفسية الموظفين بسبب قلة الضغط عليهم، والأهم من ذلك كله اختفاء المحسوبيات التي تحدث بسبب واسطات تجاوز النظام لإنهاء هم الانتظار سريعا.
الذي حدث في أنظمة وزارة الداخلية خلال السنوات الأخيرة لم يكن تطورا طبيعيا، وإنما هو انقلاب في مفاهيم العمل، سيفهم ما أتحدث عنه المواطن الذي كان يراجع لإصدار بطاقته الشخصية، وكذلك من كان يراجع لاستخراج جواز السفر أو إقامة لمكفوليه، ومن كان يراجع المرور لتجديد الاستمارة أو رخصة القيادة، وحتى ضيوفنا من المقيمين يلحظون الانقلاب الهائل الذي نتحدث عنه في التعاملات الحكومية الإلكترونية، اليوم وأنت في بيتك تجدد رخصتك وإقامتك وبطاقة الهوية وجواز سفرك ورخصة السير وتسدد مخالفاتك.. إلخ. هذا التطور الهائل المذهل في أنظمة وزارة الداخلية التي كان يفترض أنها آخر المعاقل الحكومية تغيرا وتطورا بسبب الطبيعة الأمنية لعملها، فاجأ الجميع فكان تغيير جلد الوزارة دافعا لغيرها ومحركا لعجلة التغيير، بل محرجا للأجهزة الأخرى بطيئة التطوير.
جنبا إلى جنب نجد اليوم أن هيئة سوق المال وتداول والمصارف التجارية ساهمت في تحسين بيئة الاستثمار والتعاملات المالية بشكل يفوق كثيرا من الدول المتقدمة التي سبقتنا في هذا المجال، كما أن وزارة التجارة والصناعة أخذت الجانب الآخر من الحكومة الإلكترونية وهو تسهيل معاملات قطاع الأعمال، فالتوثيق والسجل التجاري والعقود والتراخيص وباقي التعاملات مع القطاع تحولت تدريجيا إلى التعامل الإلكتروني.
في جانب ثالث نجد وزارة العدل تتحدى نفسها وطبيعتها التوثيقية وإرثها التاريخي، لتحول كتابات العدل للعمل الإلكتروني، وجزء من المحاكم كذلك تبعتها، وسارت معها بشكل متواز وزارة العمل والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية وبعض الأجهزة الحكومية الأخرى.
الإنجازات الإلكترونية للأجهزة الحكومية أكدت بشكل واضح أن المستحيل وهم، وأن الإنجاز ممكن، وأن الحاجز الوحيد يعشعش في أذهاننا وهممنا، الملاحظ أن نجاح المؤسسات والأجهزة الحكومية في أتمتة أعمالها كان مرتبطا ارتباطا مباشرا بحماس مسؤوليها وتحديدا قادة هذه الأجهزة.
الإنجازات الإلكترونية ساهمت في إراحة المواطنين والمقيمين، بل الأهم من ذلك أنها قضت على فئة من المرتزقة الذين ينتفعون من الأنظمة المتبلدة بالبيروقراطية والروتين والتعقيد الحكومي، نتج عن التطبيقات الإلكترونية في بعض الأجهزة انتهاء خدمات كثير من الوسطاء غير الشرعيين الذين أنهت التقنية خدماتهم للأبد، حيث ساهمت أتمتة الأنظمة والتعاملات الإلكترونية في شفافية التعاملات ومساواة وعدالة التعامل للجميع، وتجنبت كثيرا من التعامل البشري بين المراجعين والموظفين، مما ساهم كثيرا في كبح جماح فساد مباشر وغير مباشر في الكثير من الأجهزة الحكومية.
أذكر قبل سنوات مشروعا شابا متحمسا في وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، اسمه الحكومة الإلكترونية، كان هدف المشروع هو تحفيز المؤسسات الحكومية لأتمتة أنظمتها والتركيز على التعامل الإلكتروني في تعاملاتها مع الموردين والعملاء والمستفيدين والموظفين وداخل أجهزتها الإدارية، كان تنفيذ ذلك المشروع حلما في يوم من الأيام، اليوم صارت الحكومة الإلكترونية واقعا معاشا في حياتنا اليومية، بل تحولت التقنية إلى مطلب مُلِح لا عذر فيه، وهو أكثر ما تتنافس فيه الأجهزة الحكومية الطموحة لكسب رضا المواطنين والمتعاملين معها.
قبل أسبوع زرت شركة علم بدعوة كريمة تشرفت بها للاطلاع على نشاط الشركة والتعرف عليها، فوجدت فيها ما يسر الخاطر ويقر العين، فالشركة يعمل فيها أكثر من 1800 موظف، أكثر من 80 في المائة من موظفيها من المواطنين وأكثرهم من الشباب المتحمس، وتقدم الشركة الكثير من المنتجات للأجهزة الحكومية، من أهم تطبيقاتها الجاهزة حاليا نظام الحكومة الإلكترونية الذي يمكن لأي هيئة حكومية تطبيقه بالكامل خلال ثلاثة أشهر من بدء عملها، إضافة إلى تطويرها لكثير من المنتجات المتعلقة بالأنظمة الأمنية مثل خدمة "مقيم" التي تتعامل مع جميع ما يتعلق بالمقيمين في المملكة، وخدمة "تم" التي تختص بجميع المعاملات المرورية للمستخدم، وخدمة "يقين" التي تختص بالتعرف وتأكيد شخصية المواطنين، وغيرها من خدمات تم تطويرها بالتعاون مع مركز المعلومات الوطني، والاثنان معا جعلا حياة المواطنين أسهل بتطويع التقنية لخدمة المواطن والمقيم. إذا كان ترتيب المواعيد فقط ساهم في توفير ملايين من ساعات العمل الضائعة، وتخفيف الضغوط عن الموظفين، وتقليل الفساد في بعض الأجهزة، فهل هذا يكفي؟ بالطبع لا؛ ولا أظن أننا سنكتفي من تطوير وتسهيل إجراءات العمل في الأجهزة الحكومية، ولا أظن أن المسؤول المخلص سيكتفي أيضا، ولا أظن أن للأمر نهاية، فتسهيل معاملات المواطن يجب أن يكون هم كل مسؤول، وهدف كل جهاز حكومي، وهو عملية مستمرة وطموح لا ينتهي.
التقنية والشفافية في الإجراءات والعدالة، والمساواة في التعامل، ستساهم بشكل مباشر في توفير ملايين من ساعات العمل الضائعة في المراجعات الحكومية، وكذلك في الازدحام في الشوارع والطرقات، وتوفير الملايين من الريالات التي تضيع في سبيل إنجاز هذه الأعمال، كما ستحجّم من وسائل الفساد في الطبقة الدنيا من الموظفين ومن الوسطاء الذين يستفيدون من ضبابية الإجراءات.
لذلك ننتظر من بعض الأجهزة إجراءات مماثلة لتخفيف معاناة المواطنين، ومن أبرز هذه الأجهزة البلديات التي يعاني منها قطاع الأعمال والمواطنون، وكذلك شركتا الكهرباء والمياه المحتكرتان لخدماتهما اللتين يعاني منهما كل من تعامل معهما.
من المهم أن تكون تطبيقات التقنية والتسهيل للمتعاملين في الأجهزة الحكومية من أول معايير تقييم المسؤول والثناء عليه والتمديد له، فشكرا لكل مسؤول ساهم وعمل من أجل راحة المواطنين وتسهيل حياتهم، وسحقا لمن أتعب المواطنين وشق عليهم.