الملك سلمان .. وجيل جديد من القادة
قبل سنوات وفي مناسبة ما، دخل الملك سلمان المجلس، كان حينذاك أميرا لمنطقة الرياض، أتذكر دخوله المهيب إلى المجلس، وترحيبنا به، وتشرفنا جميعا بالسلام عليه.
أتذكر ابتسامته عند الدخول، وأتذكر نظراته التي كان يوزعها علينا بعدل، فيشعر الكل بمستوى متساو من الاهتمام، كنا نحاول التركيز والإصغاء إلى حديثه المنقول إلى أسماعنا بنبرة هادئة، رجوت الجالس بجواري أن يرتشف القهوة على مهل كيلا يشوش على حديث ضيفنا الكبير الذي تناول أحاديث الساعة، وأبهرنا بقدرته على ربط الحاضر بالماضي، كيف لا وهو القارئ المثقف المطلع على كل صفحة من صفحات التاريخ، وأضحى الآن صانعا من صناعه.
تمنيت في تلك اللحظة لو كان المقام يسمح لأوثق صفحة من الأحداث التي كان يرويها الملك سلمان، بل أغرقت في أمنياتي، وتمنيت أن أرى كتابا على رف مكتبتي يضم صفحات الأحداث مروية من منظور "سلماني".
مضت سنون على ذلك اللقاء الأبوي، وكلما استذكرت أطيافه شعرت أنه لقاء لم ينته إلا البارحة، لقاء طبع في ذاكرتي أمرين: جاذبية قائد، ومخزون هائل من الذكريات يملكه على مر الزمن.
فالملك سلمان ـــ يحفظه الله ـــ منذ أن كان أميرا لعاصمة البلاد ومنطقتها وصولا إلى أن أصبح ملكا على البلاد ــــ شخصية آسرة، يتضح تأثيرها عندما يتحدث أو يمشي بقامته المديدة، رجل يملك تلك "الكارزما" التي تلازم القادة العظام وتكتنفهم، فتكسبهم هيبة مقرونة بمحبة الشعوب واحترامهم.
الملك سلمان يتمتع بسمات "قيادية" أبرزها الحكمة، وإحقاق الحق، والنزاهة، وقدرته على الجزم وحسم الأمور، وسرعة اتخاذ القرار، وتفويض الصلاحيات، وتمكين الشباب، إضافة إلى أنه يتحلى ـــ حفظه الله ــــ بحس عال من الإيجابية والتفاؤل ــــ رغم كل الصعاب التي مر بها ـــ ولديه أفق واسع من التسامح والانفتاح نحو العالم وثقافاته، ولا ننسى طبعا احترامه للوقت والتزامه الدقيق به.
كما أن الملك سلمان يملك معرفة دقيقة بمكونات الثقافة السعودية وتاريخ المناطق والرجال والأسر، وهذا ما كان يساعده على تأدية دور "المستقطب الوطني"، الرجل الذي يقوم بالاستقطاب والبحث عن الكفاءات الوطنية، ويوصي للملوك السابقين ـــ رحمهم الله ــــ بأسماء مرشحين لتولي مناصب عليا في الحكومة أو عضوية في مجلس الشورى أو تعيين في المؤسسات العسكرية أو الدينية، وكان يؤخذ بتوصياته، لأن إخوته الملوك ــــ رحمهم الله ــــ يعرفون أن "أبا فهد" لا يجامل أحدا في المناصب، متيقنين أنه لن يوصي بأحد ما لم يكن مقتنعا تماما بجدارة المرشح، وأنه فعلا مرشح "يشد به الظهر" و"يبيض الوجه"!
بل إن تأثير الملك سلمان بدأ يتضح جليا في أسلوب وقدرة "الديوان الملكي" في استقطاب كفاءات وطنية شابة برعت في مجالها، وها هي الآن قد منحت بموجب الثقة الملكية فرصة لإدارة شؤون البلد والمشاركة في اتخاذ القرارات الكبرى ودفع عجلة التنمية، مما ينفي ما يردده بعض البيروقراطيين من أن الشباب "مندفعون" عند اتخاذ القرارات، ويفتقرون إلى رجاحة العقل، أو أن "عظمهم طري"، ولا يمكن الاعتماد عليهم، إلا قبيل سن التقاعد!
لقد أتاح الملك سلمان للوزراء والمسؤولين الجدد أن ينهلوا من معين خبرته، لأنه يؤمن ــــ يرعاه الله ــــ بأن عجلة الحياة يجب أن تستمر دون فجوة أو انقطاع من جيل إلى جيل، ويؤمن كذلك بالتعاقب السياسي والإداري الذي يتم بسلاسة ويسر تحت إشراف الكبار الحكماء، وما أدل على ذلك إلا اختياره فريقا من الشباب بدءا من الأمير مقرن بن عبد العزيز وليا للعهد، مرورا بالأمير محمد بن نايف وليا لولي العهد، ليكون "حفيد المؤسس" الذي ينقل "شعلة الحكم" من جيل الأعمام إلى جيل الأحفاد، رحم الله من رحل عنا منهم، وحفظ الله من هم معنا، ممتّعين بلبوس الصحة والعافية.
في التعيينات الأخيرة، أذهل الملك سلمان السعوديين لأنه ابتعد عن التعيينات التقليدية، وعمد إلى ضخ دماء جديدة في شرايين الدولة، مؤسسا لمدرسة تجديدية تولي معيار "الخبرة النوعية" للمرشح أهمية أكبر من معيار "الخبرة الزمنية"، فـ "الخبرة النوعية" تركز على كفاءة المرشح وعطائه ومنجزاته خلال الخدمة، بينما "الخبرة الزمنية" تعلي من شأن السنوات التي أمضاها المرشح في الخدمة، رغم أنها لا تعكس بالضرورة أي عطاء أو منجزات تمتد على مدى كل تلك السنوات!
أتمنى أن نتتلمذ ـــ نحن الشباب ــــ على رؤية "الملك" وحكمته، المكتوب منها والمروي، متطلعا إلى أن ندعم جيلا جديدا من القادة الإداريين يسهمون في بناء هذا الوطن الجميل ودفع عجلة التنمية.