«ما أفسد كثيره .. فقليله حرام»

الفساد لا ينشأ من فراغ، بل هو، بشكل أو بآخر، انعكاس لثقافة المجتمع، ينمو ويزدهر متى وجد البيئة الخصبة التي تغذيه، وتجعل من بعض أشكاله، أمرا يحظى بقبول المجتمع، في ظل عوامل تتضافر معا لتبريره، وإضفاء صفات عليه لجعله يبدو أمرا طبيعيا. وفي مثل هذه الثقافة، يصل الأمر بأحد المسؤولين العرب إلى أن يقدم وصفة "عجيبة" للتنمية، يخبرنا فيها بأن الفساد "ملح التنمية"!! فكما أن الطعام لا يكون له طعم دون ملح، كذلك التنمية تحتاج إلى قليل من الفساد.
أجلوا صدمتكم قليلا، فلعل في الأمر وجهة نظر! لكن التساؤل يبقى قائما: إذا اختفى هذا "الملح" يا ترى، كيف "تملح" المجتمعات تنميتها؟ وكيف يمكن للداء بكل جراثيمه أن يكون بلسما شافيا؟
والحقيقة، أينما ولينا وجوهنا في العالم العربي، فسنسمع الكثير من السجالات حول الفساد وتعدد صوره وأنماطه. ورغم أن الفساد، بشكل عام، يعبر عن حالة يحاول فيها شخص وضع مصالحه الشخصية فوق المصلحة العامة، إلا أن الفساد قد يكون فسادا ماليا، يتعلق بالمعاملات المالية بأشكالها كافة. أو فسادا إداريا، يتعلق بإساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة. ويختلف حجمه باختلاف مستوى الموظف ومدى ما يمتلكه من صلاحيات! فالفساد ليس مقتصرا على كبار المسؤولين، إذ حتى ضعيفو الحول والقوة، يمارسون الفساد بأشكال عديدة، كالواسطة، والتزوير، والرشوة، أو ما يسميها البعض بـالإكرامية. ولكن الفاسد الصغير هو مشروع لفاسد كبير بالضرورة، فمعظم النار من مستصغر الشرر. ومنظومة القيم لا تقبل التفكيك إلى كسور عشرية. (وما أفسد كثيره.. فقليله حرام).
وفي ظل الوفرة المالية، والسوأة الإدارية، ظهرت على السطح عوامل ساعدت في استشراء "ثقافة الفساد". ومن ذلك وجود ثلة من المتبقرطين المتشبثين بحرفية القوانين، وتأويلها بما يناسب أهواءهم، وهكذا، فإن مثل هؤلاء "يفسدون" بطريقة نظامية متقنة! ويكونون مثل "بني إسرائيل"، يأخذون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض. وعلاوة على ذلك، نلحظ غيابا لأدوات المساءلة بمعناها الواسع، وضعف التنسيق بين الأجهزة الحكومية، وضعف مؤسسات المجتمع المدني، وعدم تفعيل الإدارة التشاركية فيها. والأهم من ذلك كله القيم المجتمعية التي لا ترى غضاضة في بعض أشكال الفساد.
وعندما يتحول الفساد إلى ثقافة، يزول الخوف من العقاب، بل قد يصبح أمرا محبذا لدى البعض، عندما ينعتون بعض الفاسدين "بالفهلوة" وأنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف. ولكن إن فسدت "تفاحة واحدة"، فهي كفيلة بإفساد شاحنة ملأى بالتفاح. لذا فإن الثقافة التي تغذي الفساد يجب العمل على تجفيف منابعها واستئصال جذورها. وينبغي ابتداء أن تعمل أجهزتنا الحكومية على تفعيل المبدأ الإداري "إطلاق الصافرة"، بتوفير قنوات واضحة وفعالة للشكوى والتظلم، وفضح ممارسات الفساد. إضافة إلى المسارعة في تطبيق الحكومة الإلكترونية، وربط الأجهزة الحكومية بالأجهزة الرقابية، وتفعيل مفهوم "البيانات المفتوحة"، بإتاحة حرية الاطلاع على المعلومات التي تقوم الأجهزة الحكومية بإعدادها. وفوق ذلك كله، العمل على تغيير الأعراف الاجتماعية التي تشجع على الفساد، من خلال التوعية بأشكال الفساد، وبشروره العظيمة.
يقول رئيس وزراء سنغافورة الأسبق، "لي كوان يو" إن تنظيف الفساد كتنظيف الدرج، يبدأ من الأعلى ثم ينزل. قاتل الله الفساد والمفسدين. لو قدر لي كتابة عبارة بسيطة للسادة المسؤولين، لوجهتها مستعيرة بيتا من الشعر، وقلت:
وإصلاح القليل يزيد فيه ولا يبقى الكثير مع الفساد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي