«البشتختة» .. «الشيطان» الذي اقتحم حياة السعوديين
"الشيطان" لم يدخل الكثير من منازل المنطقة الشرقية لرفض المتنفذين الترحيب به، خاصة أن اقتناءه قد ينتج الكثير من العنف والتكسير لما أحيط به من السرية. ذلك الشيطان أو الجني لم يكن إلا "البشتختة" التي عرفها الدكتور سمير الضامر بالصندوق الخشبي الذي يوضع له بوق، متخذا منه وسيلة للتعريف بالكثير من الحقائق التي ارتبطت بالأحساء الغنية بموروثها الغنائي في فترة العشرينيات والثلاثينيات الميلادية.
وأوضح الضامر أنه يكشف من خلال "البشتختة" بأن الفن الشعبي المنطقة الشرقية وفي منطقة الأحساء تحديدا ممتد لمائتين وثلاثمائة سنة مضت، مستعرضا في كتابه الذي سيصدر قريبا في 400 صفحة أشهر المطربين الشعبيين في المنطقة، موضحا أنها آلة خاصة لسماع الموسيقى قبل ظهور الكاسيت وتقنيات الميديا الحديثة اخترعها توماس أديسون موثقا للثقافة الموسيقية بعد أن كانت تتناقل شفاهية.
وأشار إلى أن "الغراما فون" كانت تجلب من الهند وفارس، قبل أن يفسح للآلات الموسيقية في الستينيات، مضيفا أنها حوربت كأي شيء مستحدث إلا أنها ساهمت مساهمة مباشرة في إحداث ثورة ثقافية بالانفتاح على عوالم أخرى.
وعنها يقول، "في كل حارة ستجد "البشتختة" في بيت واحد فقط من بيوتها"، والمقتدرين هم من يستطيعون اقتناءها في ذلك الزمن، كانت توضع في غرفة داخل غرفة داخل غرفة لئلا يكتشف الجيران وجودها في المنزل فتتعرض للإتلاف، خاصة مع الأساطير التي نسجت حولها وعدم التصديق بأن صندوقا خشبيا له أن يصدر هذه الأصوات الجميلة الواضحة، وغيرها من التصورات التي أحيكت حول علبة من الجماد.
كما يوضح الضامر أن اقتناء "البشتختة" تطلب شيئا من التحدي والتمرد الذي أنتجه العنف والتحريم الذي أحيط بها، ومع أن الخط التجاري بين الشرقية والهند كان سائدا جدا إلا أن تجارة "البشتختة" كانت تجارة سرية لرفض أصحاب النفوذ دخولها للبلد. وقال الضامر، "بغض النظر عن العنف الذي ولدته "البشتختة" إلا أننا لا ننكر تغذيتها للذائقة السمعية، وتكوينها ثورة ثقافية لاستماعهم للموروث المصري والعراقي وغيره، كما تم التسجيل لعدد هائل من المقرئين في العراق ومصر اللتين كانتا على عكس الخليج العربي بإعطائها حظوة لـ"البشتختة" بوجودها في كل بيت".
#2#
وبالعودة للتراث الغنائي، يكشف الضامر أن المنطقة كانت غنية بالعناصر التي لا يستهان بها التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالحياة اليومية لأهالي المنطقة ومن ذلك أغاني البحر والنواخذة، وأغاني الفلاحة، أغاني العتالين وبائعي السلع، أغاني الأطفال التي ترددها الأمهات والجدات، أغاني الحرفيين والمهنيين، وأغاني البادية، إلى جانب الأهازيج الدينية، متسائلا عن إغفالها من قبل المؤرخين وعدم إعطائها حقها من التدوين، مضيفا أن بحثه في الموروث الغنائي المحلي قاده لأغنية مسجلة للمطرب الشعبي أحمد البارو واصفا إياها بالوثيقة المهمة ولو تعمقنا أكثر سنجد أكثر، قائلا "يقاس عليها أغاني البحر وأغاني الأطفال التي لم يعتن بها عناية كبيرة".
ونصح الضامر من لديه اهتمام بالتوثيق ألا يتأخر في جمعه لأنه سيجد موروثا ضخما لن يكفي له ألف صفحة مدونة، لافتا إلى أن أغاني الأطفال في كل مستوياتها الشعبية التي لحنت من قبل الأمهات والأجداد بطريقة عذبة دائما ما تغنى بمقام الصبا ليغذي الروح العاطفية لدى الطفل ويغذي فيه روح الحنان.
وأبان بأن "البشتختة" الحساوية دفعته للبحث عن معلومات لم تدون، ولوضع بعض التصورات والبحوث التي تطلبت التخطيط، وارتياد الأماكن الصعبة للحصول على نتيجة، وجمعه لعشرين أسطوانة من الأغاني القديمة منذ الثلاثينيات الميلادية، ما استدعى منه الانقطاع عن المجتمع النخبوي والتفرغ للبيئات والأحياء الشعبية، والبحث عن القدامى والتوجه للمنازل القديمة، ولتجمعات الشياب "كبار السن"، وتسجيل ما سمعه مباشرة والاعتماد على الذاكرة لرفضهم التسجيل في أغلب الأوقات.
ووصف الضامر العملية بالمتعبة جدا، خاصة مع انعدام التدوينات الخاصة بتلك الفترة الزمنية وموت أغلبية الأشخاص المعنيين بهذا الجانب ما دفعه للبحث عن أبنائهم أو أنسابهم ووصوله للكويت والدمام والإمارات للحصول على مبتغاه، إلا أن العملية قادته أيضا للتعرف على كم هائل من المطربين الأحسائيين، ومؤسسي الأغنية الحساوية، كما قادته لأقدم مطرب سجل أسطوانة حجرية في المنطقة، كما كشفت له بدايات تسجيل الأغنية وقصة رفض وامتناع (محمد بن فارس) أكبر هرم غنائي شعبي في المنطقة للتسجيل وتخوفه من خوض التجربة، وإرساله لتلميذيه للتسجيل بدلا عنه وهما (ضاحي بن وليد، ومحمد زويد) اللذان كانا الأقرب لقلبه. ويفصح زويد بحسب الضامر بأن التخوف من التسجيل كان لأنه يتم في ألمانيا، إلا أن الشركات وصلت للعراق التي أغنتهم عن التوجه لألمانيا البعيدة مسافة والمختلفة في أجوائها عن المنطقة، وهو ما شجع بن فارس لاحقا للتسجيل بعد معرفة تفاصيل التجربة من تلميذيه.
#3#
وقال الضامر، إن التراث الغنائي لم يوثق ولا بنسبة واحد من عشرة، وسبب ذلك غياب الوعي الفردي والجمعي لتدوين التراث، منوها إلى أن التراث يتطلب الانطلاق من فكرة إنسانية حتى لا يكون ماديا، فالإنسان هو من أنتج التراث ولكي يتم التعامل معه لا بد من التعامل مع الإنسان.
وأشار الضامر إلى أن دافعه لتدوين الموروث الغنائي أو الفن الميت على حد تعبيره هو تجاهل الإعلام للفنون الشعبية، والجهل بتصور الكيفية التي صنعت وبدأت بها هذه الفنون، على الرغم من اهتمام المهرجانات أخيرا بجلب بعض الفرق الشعبية.
الضامر طالب وزارة الإعلام في حديثه لـ "الاقتصادية" بتبنيها لمشروع وطني، وإيكاله لعدد من الباحثين ومن الرواة الشعبيين في كل منطقة من مناطق المملكة لإطلاق حركة ثقافية شعبية يتم جمعها في معجم متكامل يكون دليلا لأبناء الوطن للتعرف على التاريخ العريق للمملكة الحديثة منذ التأسيس، وما كانت عليه قبلا.
وأضاف أن التاريخ المهمش هو دافع آخر له للتدوين، كاشفا عن 50 مطربا كانوا يمارسون الفن بإبداع تعرض لهم في كتابه بمعلوماتهم وبعض أخبارهم وصورهم إضافة إلى أغانيهم، ليكون تاريخهم حاضرا، فيما ذكر بأن دافعه الأخير هو تحليل الخطاب لزيادة الوعي والتحفيز على البحث ليصبح الموروث الشعبي إشعاعا حضاريا وثقافيا يضاف للمناهج التعليمية، ودافعا للأجيال الجديدة أن تنهض بمستقبلها من خلال ماضيها، مشيرا إلى أن التاريخ الأوروبي من القرن السابع عشر استغل ذلك وهو إذا ما قورن بالتاريخ الإسلامي والإنساني يعد لا شيء إلا أن وعيهم لفكرة الخطاب دفعتهم لإنشاء مؤسسة الاستشراق لدراسة الشرق والسيطرة على العالم الجديد اليوم بالاستفادة من عصارة المشارقة من الصين إلى المغرب العربي.
ووعد الضامر بأن معرض الكتاب المقبل سيحوي كل المعلومات الخاصة بـ"البشتختة" باستعراض الأدب الطبيعي، والفنون والإيقاعات، والشعر الغنائي، والمطربين، والأسطوانات كمحاور رئيسة لكتابه الذي عده تصورا ثقافيا وفنيا لما كانت عليه الفنون الشعبية في منطقة الأحساء، كاشفا لـ"الاقتصادية" عن شروعه في إتمام هذا المشروع التوثيقي بجزء آخر متمم للكتاب بتعرضه لكل نموذج من الفنون بالتحليل الثقافي لإيضاح الرؤية، وكيفية البحث عن هذه الفنون، ومن يقدمها.