القراءة القانونية
بعد انتهاء معرض الكتاب وما صاحبه من فعاليات وأحداث تدل في مجموعها على تغيرات كبيرة تطرأ على المفاهيم العامة للحياة بشتى مجالاتها سواء على مستوى عقل الإنسان أو طريقة تواصله، إضافة إلى مقدار التأثير وتنوع مصادر التأثير والتلقي، ومن الأمور التي تطورت بوضوح في منطقة الخليج الاهتمام بالقراءة، التي هي نشاط بصري وعقلي، فالبصري التقاط الكلمات، والعقلي فهم معانيها وتوظيف المخزون المعرفي، ومن الملاحظ على وجه الخصوص الاهتمام بالقراءة القانونية واقتناء الكتب القانونية.
والذي يلاحظ معرض الكتاب قديماً ويلاحظه حديثاً، يرى طفرة تعيشها دور الكتب القانونية، وإقبالا كبيرا على شراء الكتب القانونية، وكأن مهنة المحاماة التي بدأت "مهنة" وتعيش الآن مرحلة أخرى، وهي بروزها حالياً بمنظور "فن علمي"، يتم التأسيس فيها لمرحلة جديدة، وبعد نضج هذه المرحلة ستعود إلى خاصيتها الأساسية كمهنة، مثل مهنة المحاسبة، بدأت مهنة، ثم تطورت إلى علم، ثم عادت إلى كونها مهنة متطورة، ولا شك أن التطور المعرفي الذي يصاحب المهنة يزيد من نضجها وتطورها، وبالنظر إلى الإقبال الكبير على الكتب القانونية أحب أن أضع للقارئ الكريم وقفات مهمة:
الأولى: إن القراءة المنهجية أساس المعرفة، بحيث يضع القارئ برنامجا لقراءة كتب كاملة في أصول القانون، ثم في الكتب الأساسية، ويحرص على كبار المؤلفين الذين يعتبرون مؤسسين لعلوم القانون في العالم العربي، مثل السنهوري ومرقس والطماوي وحمدي ياسين عكاشة ومحمود نجيب حسني والشواربي وعبد الحكيم فودة ورمزي الشاعر والدكتور أحمد فتحي سرور ورؤوف عبيد والزرقا وغيرهم من المؤلفين الكبار، وينبغي التركيز في هذه القراءة، ومحاولة استيعاب مضامين الكتاب ومراجعتها، واستخدام مهارات الفهم الأساسية، وهي التحليل والاستنتاج والتعرف على معاني المفردات، وتنمية المخزون اللغوي، وهذه القراءة هي التي تكون الملكة القانونية، وهي التي تصنع العقلية الفقهية القانونية، والتي تكتمل بالخبرة والممارسة العملية، ومنها يتم تطوير مهارات القراءة لتكون القراءة سريعة مع التفاعل العقلي، بحيث يصبح العقل هو الذي يقرأ وليست العينين، ومن المهم في الخبرة العملية التعود على الكتابة؛ لأنها مهنة ليست بسهلة، قال همنجواي: "إن الكتابة قد تبدو سهلة, غير أنها في الواقع أشق الأعمال في العالم".
وكلما كانت المعلومات والأفكار القانونية في ذهن القارئ ضعيفة، كانت كتابته ضعيفة، فقيمة الكتابة تكون بالأفكار التي تحتويها، فإن ضعفت أفكار الكتابة تهاوى كتابه، وحينها لن يضيع القارئ كنوزه من الساعات على صفحات كاتب ركيك أو مترافع هزيل أو باحث ضعيف، وكثير من القانونيين يحتاجون إلى الكتابة في أعمالهم، حتى الترافع في المحاكم أصبح يغلب عليه نمط الكتابة وفق قوانين المرافعات، وبالتالي أصبحت ممارسة مهارة الكتابة شرطا أساسيا للعمل القانوني والكتابة القانونية، مثل النصوص الإبداعية كالرواية والمقالة الأدبية والفكرية، فهذه مما يصعب أن يمارسها الشخص لمدة تزيد على ثلاث ساعات، وإلا فسيكون فيها قسم كبير لعمل آلي لا إبداع فيه. وقد يكون العمل البدني أسهل بكثير من العمل الذهني طويل الوقت، وهذا ما يدعوه إلى العودة إلى القراءة كوقود للكتابة، يذكر صاحب كتاب مذكرات قارئ يقول: استمعت مرة للقاء حضره عدد من مشاهير الكتاب الأمريكيين ممن تندرج كتاباتهم تحت مسمى "الكتابة الإبداعية"، قالوا إنهم يحتملون مقدار ثلاث ساعات من الكتابة يوميا لا أكثر من هذا. وتقول: ماذا يصنع الكاتب في بقية يومه؟ أقول إنه يحتاج إلى القراءة التي هي زاد الكتابة، ولا أقول تساعده على الكتابة، فليست القراءة للكاتب مساعدة، بل هي شرط عمله.
الثانية: القراءة البحثية وهي القراءة للبحث عن معلومات معينة لدراسة قضية معينة، مثل قضية تتعلق بالمسؤولية التقصيرية، ويكون هناك إشكال في التعويض عن الضرر المباشر وغير المباشر. هنا تحتاج إلى أن تقرأ كلام السنهوري في «الوسيط في مصادر الالتزام»، أو ما كتبه الدكتور محمد فوزي فيض الله في بحثه الفريد «المسؤولية التقصيرية بين الشريعة والقانون»، الذي أسهب فيه بإبداع، أو ما كتبه الدكتور أحمد موافي في كتابه البديع «الضرر»، أو غير ذلك من الكتب، فهذه القراءة ليست منهجية، بل هي قراءة بحثية تنضج القراءة المنهجية الأساسية، وفيها فوائد، منها: العمق المعرفي، ورسوخها في الذهن لارتباطها بموضوع يتعايشه القارئ، ولكن هذه القراءة لا تكفي في تشكيل العقلية القانونية، ومن المؤسف أن يعتمد عليها أغلب القانونيين، وتلحظ ذلك من عدم اكتمال الفكرة الأساسية أثناء النقاش بسبب أن القراءة البحثية مقتصرة على موضوع معين بخلاف القراءة الكاملة لموضوعات القانون، ولا تشترط قراءة كل التفاصيل في شتى أنواع القانون، ولكن لابد من الحد الأدنى لقراءة الكتب الأساسية.
الثالثة: القراءة القانونية النقدية؛ وهي مرحلة متقدمة تأتي بعد اكتمال منظومة القراءة المنهجية والقراءة البحثية، إضافة إلى الممارسة العملية، عندها تأتي مهارة الغوص في النصوص وتحليلها وإظهار المعاني وما ينقصها.
إن الإقبال على الكتب القانونية ينبغي أن يضاهيه إقبال على القراءة القانونية المنهجية؛ حتى ينشأ جيل حقوقي واعٍ، يفرض نفسه على مؤسسات الدولة وأفراد المجتمع.
والله الموفق