البريد الصوتي .. قضى على دور السكرتيرة والآن جاء دوره

البريد الصوتي .. قضى على دور السكرتيرة والآن جاء دوره
البريد الصوتي .. قضى على دور السكرتيرة والآن جاء دوره

قبل أسابيع قليلة، ألغى مصرف جيه بي مورجان خدمة البريد الصوتي. والآن، ينبغي لأي شخص يحاول جذب انتباه المصرفيين أن يرسل رسالة بالبريد الإلكتروني، أو رسالة نصية، أو الاتصال بهواتفهم المحمولة بدلا من ذلك.
منطق المصرف يقول بما أنه لم يعد عمليا أن يترك أي أحد رسائل على الهواتف الأرضية، فليست هناك جدوى في الاستمرار في دفع عشرة دولارات شهريا لكل خط مقابل الخدمة. جاءت الشكوى التي لا مفر منها، وهي أن المصرف يهتم بالصغائر، وأنه حقق ربحا يقدر بـ 22 مليار دولار في العام الماضي، وإلغاء البريد الصوتي من أجل توفير بضعة ملايين أمر لا معنى له.
مع ذلك، يعتبر الإجراء الذي جاء في أعقاب إجراء مشابه من قبل شركة كوكا كولا في أواخر العام الماضي، أمرا مفهوما. أصبح البريد الصوتي أمرا مرهقا، الشكل الأخير للاتصالات، ويستخدم فقط من قبل أولئك الذين فشلوا في الحصول على رد عن طريق البريد الإلكتروني، أو لنصف سكان العالم المتخلفين تكنولوجيا، الذين فشلوا في إتقان استخدام البريد الإلكتروني.
قلة من الناس هم من يستخدمون رسائل البريد الصوتي، وأقل منهم أولئك الذين لا يزالون يستمعون إليها. ولهذا السبب كان الناس على الأقل مهتمين بشكل ضئيل في الآونة الأخيرة بشائعات تقول إن شركة أبل في طريقها لتحويل رسائل البريد الصوتي إلى نصوص.
آخر مرة تفقدت فيها بريدي الصوتي، كان هنالك أكثر من 100 رسالة في الانتظار، ولم تكن مهمة ومعظمها جاءت كتنبيه لي بوجود رسالة بريد إلكتروني كنت قد تجاهلتها.
ما هو ملحوظ جدا حول البريد الصوتي للشركات هو أنه خدمة اندثرت قبل أن تنال فرصة للنمو. فقد تم اختراعها في عام 1979 من قبل جوردون ماثيوز، وهو صاحب مشاريع أمريكي ادعى أنه استلهم الفكرة بعد أن رأى كومة من الرسائل الصغيرة تقول "اتصل بك فلان حين كنتَ في الخارج".
في البداية، بدا الأمر رائعا. كان بمثابة وضع حد لألعاب الهاتف التي لا جدوى منها. بدت وكأنها شيء حديث وفاعل وإنتاجي - إضافة إلى كونها مخيفة قليلا. مبدئيا، كان الناس مذهولين من فكرة تسجيل كلماتهم المتعثرة، لكن بعد حين توقفوا عن التلعثم وتعلموا التحدث بصورة طبيعية نسبيا.
مع ذلك، تسبب البريد الصوتي أيضا في حدوث أضرار اجتماعية على المكتب. فقد عجل بإلغاء دور السكرتيرة، لأنه لم تعد هناك حاجة إلى وجود شخص على وشك رفع هاتف المدير ليقول عبارته "مكتب السيد سميث" ويرددها في كل مرة يرن فيها جرس الهاتف. وأثر أيضا في نوع معين من التواصل بين العاملين. وحتى الوقت الذي حصل فيه الجميع على خدمة البريد الصوتي، كان الزملاء يردّون على اتصالات بعضهم بعضا ويتسلمون الرسائل. كان ذلك أمرا مزعجا، لكن الالتزام المتبادل كان متينا.

#2#

إن وصول خدمة البريد الصوتي وإلغاءها بشكل سريع يعد جزءا من قصة أطول وأبطأ لاستخدام وإلغاء الهواتف في العمل - ويلعب مصرف جيه بي مورجان دورا كبيرا في كلتا الحالتين.
فمثلما كان المصرف من أوائل الشركات الكبيرة التي قضت على البريد الصوتي، كان أيضا من أوائل الشركات الكبيرة التي احتضنت الهاتف قبل 100 عام. خلال السنوات الأولى من القرن العشرين في نيويورك، أوجد جورج دبليو بيركينز، وهو مساعد لدى "جيه بي مورجان" في وول ستريت، نظاما للاتصال بـ 30 شخصا بشكل سريع مثل عامل المقسم، وكانت النتيجة أن اشتهر بيركينز بأنه الرجل الوحيد على قيد الحياة الذي بإمكانه جمع 20 مليون دولار في غضون 20 دقيقة.
في المملكة المتحدة، كان مكتب "جيه بي مورجان" في لندن أول مصرف يدرج طلبا كبيرا على الهواتف، في وقت كانت فيه المصارف الأخرى تنظر بريبة إلى تلك الأداة الجديدة، مفضلة ممارسة الأعمال التجارية عن طريق وسيط وبالمصافحة.
لم يكن بنك إنجلترا يرى أن هناك حاجة إلى استخدام الهاتف حتى عام 1902. وفي آخر الشارع في "شرودرز"، كان المصرف التجاري مستريبا في الأداة الجديدة التي اشتراها للتو إلى درجة أنه رفض أن يُدرَج اسمه ورقمه في دليل الهاتف الجديد، بحجة أنه لم يكن يريد من موظفيه الاتصال وتشتيت تفكيرهم.
خلال الأيام الأولى، كان هنالك كل الخوف والبغض والجهل بكيفية استخدام الهاتف، وهي المشاعر التي استثيرت أخيرا بسبب رسائل البريد الإلكتروني.
في عام 1912 قال طبيب نفسي ألماني لمجلة "تيليفوني"، "إن الهاتف جعل بعض مرضاه المنفعلين يصابون بحالة هستيرية". وفي عام 1927 عبَر بعض علماء الاجتماع الأمريكيين عن غضبهم من أن المكالمات الهاتفية، المتدفقة في أقل من يوم واحد، كانت تعني أن "العزلة الشخصية - عدم إمكانية تحقيق مطالب الآخرين بالحصول على انتباه الفرد - أمر نادر على نحو متزايد".
في الوقت نفسه، كان الناس أيضا في حيرة من أمرهم حول كيفية استخدام الهاتف. قدم "دليل الاستخدام" النصيحة التالية: "تكلم مباشرة من خلال الجزء الموجود عند الفم وأبقِ شاربك بعيدا عن الفتحة". دليل آخر قدم نصيحة مفادها أنه من غير اللائق البدء بمحادثة هاتفية بكلمة "مرحبا". كان يتم استبعاد أي شيء بالعامية: حث مصرف شنغهاي وهونج كونج موظفيه على أن تكون تحيتهم للمتصلين "أنا مصرف شنغهاي وهونج كونج".
حتى لو كان موظفو المكاتب بطيئين في الرد على الهاتف، إلا أنه عمل على تغيير ليس طريقة عملهم فحسب، بل أيضا المكان الذي يعملون فيه. فلا ينبغي أن يكون المديرون في المكان نفسه الذي يجري فيه العمل فعلا. ولم يكن العاملون في المكتب يحتاجون إلى الذهاب بأنفسهم للتحدث مع الزملاء في الطابق الآخر، بعدما أصبح بإمكانهم استخدام الهاتف بدلا من ذلك.
أحد كبار مهندسي شركة إيه تي آند تي قال في أوائل القرن العشرين، "من دون الهاتف كان من الممكن أن يكون مستحيلا وجود ناطحات السحاب: تخيل لو لم يكن هنالك هاتف وكل رسالة ينبغي أن يحملها رسول شخصي. ما مدى النطاق الذي تعتقد أن المصاعد ستوفره للمكاتب"؟
خلافا لرسائل البريد الإلكتروني، التي تعتبر طريقة ديمقراطية للتواصل، كان الهاتف رمزا للسلطة. كان يمتلكه فقط الاشخاص المهمون وكانوا يستخدمونه فقط، إن استخدموه أصلا، لتسيير الأعمال الأكثر إلحاحا.
وعلى مدى عقود كانت الصورة القياسية لرجل الأعمال الناجح في العمل تظهر له لقطة وهو يتحدث عبر الهاتف. وحتى فترة قريبة للغاية تعود إلى سنتين فقط، نشر رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، صورة له وهو يتحدث عبر هاتف أرضي مع باراك أوباما عبر شبكة (لينكدإن) - "أين أعمل".
مع ذلك، معظم إسهامات الهاتف في المكتب حتى وقت قريب كانت هي الرنين والجأر، تلك الضوضاء التي تجعل المكاتب أماكن حيوية وبهيجة. كان كل شخص يعرف عن الآخر، حيث كان بإمكان المكتب كله سماع المحادثات الهاتفية التي كانت تتم مع العملاء وجهات الاتصال- إضافة إلى مكالمات الأزواج والسباكين.
لكن في الوقت الذي أخذ يسيطر فيه الهاتف المحمول، توقف هاتف المكتب الأرضي عن العمل. وحتى الآن، لا يزال هنالك هاتف موجود على كل مكتب تقريبا، لكنها هواتف صامتة إلى حد كبير. كلما رن جرس هاتفي، أنظر إليه بريبة، لأنه يثير استيائي من هذا الطفيلي. بدلا من ذلك، يتلقى الناس المكالمات عبر الهواتف المحمولة، التي يكون معظمها في الوضع الصامت أو وضع الاهتزاز. ومن ثم، خوفا من إزعاج الزملاء، نبتعد قليلا عن مكاتبنا لإجراء مكالمات إما في الممرات وإما تحت السلالم.
لن يستغرق الأمر فترة طويلة قبل أن تقرر الشركات - ربما بقيادة مصرف جيه بي مورجان - أن الخط الأرضي في حد ذاته لا يخدم أغراضا أكثر من مجرد خدمة البريد الصوتي. وعندما يتم القضاء عليه في النهاية، فإنهم لن يوفروا فقط أجرة استئجار الخط، بل أيضا الرواتب لمجموعة من الناس الذين لا يأتي على ذكرهم أحد، والذين اعتادوا على معرفة جميع الأسرار ويعملون على إبقاء التواصل بين الشركات: مشغلو مقاسم الهواتف.

الأكثر قراءة