عندما نسرف في «أكل» الماء «1»
تحدثنا فيما سبق عن استخدامات المياه في العالم، وتبين أنها ـــ على الترتيب ـــ الاستخدام الزراعي ثم الصناعي ثم المنزلي. من المفاجئ للكثير معرفة أن 70 في المائة من الماء المستخرج في العالم يذهب للاستهلاك الزراعي، في حين يذهب 20 في المائة للاستهلاك الصناعي، أما الاستهلاك المنزلي "أو البلدي"، فلا يمثل أكثر من 10 في المائة من الاستهلاك العالمي "وفق إحصائية 2007". هذه الإحصائية ــــ وهذا الترتيب ــــ وإن كانت عالمية، إلا أنها صحيحة أيضا في الأغلب على مستوى كثير من الدول. فكل دول العالم تقريبا ـــ باستثناء الدول الصناعية كروسيا وأمريكا الشمالية وغرب أوروبا، التي يأتي الاستهلاك الصناعي أولا ـــ تستهلك الماء في الإنتاج الزراعي، ثم يأتي بعد ذلك المجال الصناعي ثم المنزلي. هذا الترتيب ينطبق أيضا على الدول العربية جميعها ـــ باستثناء جيبوتي.
قبل الخوض في تفاصيل الاستهلاك الزراعي، يجب التنبيه إلى نقطة مهمة تمثل اختلافا جذريا بين وجوه استهلاك الماء المختلفة. من السهل قياس وتحديد الاستهلاك المنزلي والصناعي في أي منطقة، لكن من الصعوبة بمكان معرفة كمية استهلاك الماء في الزراعة حتى في الدول المتقدمة. كثير من الآبار التي يتم حفرها للاستهلاك الزراعي غير مزودة بعدادات قياس دقيقة. ففي دراسة حديثة لست مناطق زراعية في فرنسا، وجد أن نصف الآبار فقط مزودة بعدادات دقيقة. في البلدان العربية، المشكلة أكبر من هذا بكثير، فعديد من المزارع تحفر فيها الآبار من غير تراخيص، والمرخص منها غير مزود بعدادات لقياس الماء المستهلك. وعليه؛ فكثير من الأرقام التي نتحدث عنها ــــ في أفضل الأحيان ـــ مجرد تقديرات.
هذه الأرقام وهذه المعلومات ترسم وضعا مليئا بالتحديات لن يلبث ـــ مع الأسف ــــ أن يصبح أكثر صعوبة وأشد تحديا. أول هذه التحديات بديهي، وهو الزيادة السكانية، وما تقتضيه من زيادة في الطلب على الغذاء "بشقيه من المنتجات النباتية والحيوانية". الزيادة السكانية ستؤدي إلى نقص ما يسمى "نسبة الأرض الزراعية لكل شخص". فمساحات الأراضي الزراعية ليست في ازدياد، وفي المقابل هناك زيادة بشرية كبيرة في أنحاء العالم تستوجب زيادة في الطلب على الغذاء؛ حيث يتوقع أن يزداد الطلب على الغذاء 50 في المائة خلال الـ15 سنة المقبلة فقط. وهذا ما أدى في السابق إلى تناقص نسبة الأرض الزراعية إلى عدد السكان من 0.4 هكتار لكل شخص عام 1961 إلى 0.2 هكتار لكل شخص عام 2005، وهذا التناقص في استمرار.
تحد آخر يتمثل في تآكل الغطاء الزراعي في كثير من البلدان لأسباب عدة، منها: التصحر، وأساليب الري الخاطئة، وهجرة المزارعين إلى المدن، وزحف المدن ناحية الأراضي الخصبة، ومنها أيضا تلوث مصادر المياه بالصرف الزراعي. فكثير من المبيدات الحشرية pesticides ومبيدات الأعشاب الضارة herbicides تجد طريقها إلى المسطحات المائية، وهو ما يؤدي إلى تلوثها كما يحدث في بلدان كأمريكا واليابان ودول شرق أوروبا.
التحدي الثالث؛ التطور الحضري Urbanization أو ارتفاع مستوى المعيشة. فقد لاحظ الباحثون أن هذا التغير في كثير من المجتمعات يصحبه تغير في العادات الغذائية، ففي الصين مثلا وخلال الـ 20 سنة الأخيرة زاد الاستهلاك الزراعي للمياه بسبب ارتفاع مستوى المعيشة، وما تبعه من تغيير في النمط الغذائي. فقد تبين أن استهلاك الفرد الصيني من اللحوم سنويا قد زاد في تلك الفترة 30 في المائة تقريبا، وهو ما فسر زيادة الاستهلاك المائي زراعيا. وبسبب التطور الصناعي والزيادة السكانية في كثير من البلدان، فمن المتوقع أن يزداد الطلب على اللحوم في السنوات العشر المقبلة 60 في المائة، وهو ما يعني استهلاكا أكثر للماء. قد يبدو الأمر بسيطا للوهلة الأولى، لكن الباحثين يعتقدون أن هذا التغير في العادات الغذائية ـــ من النمط الغذائي النباتي غير المستهلك للمياه إلى نمط غذائي يعتمد على اللحوم التي تحتاج إلى كثير من المياه لإنتاجها ـــ هو أكبر خطر يهدد الاستهلاك المائي من الناحية الزراعية.
ملاحظة أخيرة وهي أن وجود الاستهلاك الزراعي أولا في الدول العربية ـــ وغيرها من دول العالم الثالث ـــ يبرز مشكلتين: الأولى تأخر التطور الصناعي مقارنة بالغرب، والأخرى انعدام الكفاءة في استخدام المياه زراعيا في منطقة تعاني أساسا شح المياه فيها. فكثير من الدول الغربية تنتج محاصيل زراعية أكثر جودة ووفرة من الدول العربية باستخدام مياه أقل. فمثلا تبلغ نسبة استهلاك الماء للأغراض الزراعية في الدول المتقدمة "دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مثلا وفق إحصائية عام 2011" 44 في المائة، في حين تبلغ 60 في المائة في تكتل دول البريك BRIC، وهي ـــ البرازيل وروسيا والهند والصين. أما في أجزاء كثيرة من دول العالم الثالث فتصل النسبة إلى 90 في المائة. مؤشر آخر يعطي انطباعا واضحا عن مدى الترشيد في الاستهلاك الزراعي، ومدى فعالية الأساليب الزراعية؛ هو كمية الماء الزراعي المستخدم للشخص الواحد. فمثلا النسبة في دول متقدمة كفرنسا وبريطانيا وروسيا تبلغ أقل من 100 متر مكعب للشخص الواحد سنويا. الرقم في كندا وألمانيا وهولندا أقل من 250 مترا مكعبا من الماء. أما في دول كالسودان والعراق ودول آسيا الوسطى ـــ دول العالم الثالث الزراعية ـــ فتبلغ أكثر من ألف متر مكعب للشخص الواحد! في السعودية ومصر وسورية، النسبة تتراوح بين 500 و1000 متر مكعب للشخص الواحد سنويا.
هذه الأرقام تبين بجلاء إمكانية تحسين الوضع الحالي وإنتاج محاصيل زراعية بكميات مياه أقل على الرغم من التحديات الموجودة.. الحل يكمن في حسن إدارة الماء. ولأهمية هذا القطاع، سنستكمل الحديث عنه في الأسبوع المقبل.