تأثير المالية العامة في الشركات بعد انخفاض أسعار النفط
من المهم التوضيح ابتداء أن المقصود انخفاض راسخ لأسعار النفط، متوقع أن يبقى لسنوات. وبمعنى آخر، التوقع ألا تزيد خلال الشهور أو السنوات القريبة المقبلة على أسعار الشهور الماضية، أكثر من بضع عشرات من الدولارات للبرميل. أما بلوغ سعر 100 دولار للبرميل فالرأي السائد أنه قد أصبح من الأحلام. وهذا الانخفاض المتوقع استمراره سيجر إلى انخفاض طويل الأمد في الإيرادات العامة ومن ثم خفض طويل الأمد في الإنفاق العام دون الأول، والفرق عجز في الميزانية. ومرغوب فهم تأثير ذلك في الشركات، خاصة مبيعاتها وأرباحها.
يصعب على البعض فهم تأثير أوضاع المالية العامة السابقة في القطاع الخاص، وفي نمو وربحية الشركات عامة، وشريحة كبيرة من الشركات خاصة. مصدر الصعوبة عند البعض أنهم ينظرون إلى الاقتصاد من منظار جزئي وكما لو أنه بناء من وحدات مستقلة، لا يتأثر أو ينتقل التأثير بين بعضها. مثلا، نعرف أن الأفراد هم زبائن شركات التجزئة الأساسيون، أما الحكومة فزبون صغير. وبناء عليه قد يستنتجون أن مبيعات شركات التجزئة لا تتأثر من جراء انخفاض إيرادات الدولة من النفط. هذا تبسيط مخل في فهم وتفسير عمل الاقتصاد بقطاعاته ونشاطاته المختلفة، وكيف تتفاعل بينها. تبسيط مخل في فهم آلية نمو الاقتصاد وتأثير القطاع "أو القطاعات" القائد للنمو الاقتصادي، الذي يسمى أحيانا محرك النمو الاقتصادي. تبسيط مخل في فهم درجة اعتمادية أو عدم اعتمادية النمو الاقتصادي على الصادرات وما طبيعة الصادرات، ولماذا تزيد هذه الاعتمادية في اقتصادات دون اقتصادات.
قطاعات الاقتصاد ليست أجزاء مستقلة عن بعضها. لا يمكن أن يعيش كل قطاع دنياه منعزلا، بل هي تشبه أعضاء الجسد إلى حد كبير. تعتمد وتتأثر بعض أعضاء الجسد ببعض، وبعض الأعضاء أهم من بعض في الاعتماد أو التأثير، وبعضها يقود التأثير بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
لنتناول الموضوع بالتدريج. البداية في فهم حدوث الازدهار والنمو الاقتصادي.
تركز النماذج والتحليلات ونظريات النمو الاقتصادي الساعية إلى تحليل محركات النمو الاقتصادي تركز على التغيرات التقنية والموارد البشرية، فالاثنان مكينة نمو الاقتصاد وتراكم الثروة. وتعد الموارد الطبيعية أداة تابعة ومسهلة لعمل المكينة. ودفعا لسوء الفهم، فإن التقنية تعني معنى أعم مما هو متبادر إلى الذهن. تعني تطور الآلة بمعناها العام، أو بعبارة أخرى، التطور الصناعي منذ بداية الثورة الصناعية قبل بضعة قرون.
ما الوضع في دول الخليج النفطية وعلى رأسها بلادنا؟
التقنية مستوردة فلسنا منتجين لها. الموارد البشرية نعرف وضعها ونعرف مدى اعتماديتنا على الغير. توافر المال مكن من الحصول على التقنية وعلى موارد بشرية لبناء ونمو اقتصادنا، ومكن من تحقيق قدر من التعليم والتدريب لمواردنا البشرية. أي أن المسألة عكسية: المال جلب التقنية والبشر.
عندما تكون وفرة المال دون التغيرات التقنية هي محرك النمو في اقتصاد دول مثل بلادنا فهو يعني بالضرورة وجود ضعف حقيقي في الاستخدام الأمثل لعوامل الإنتاج. وهذه سمة مشتركة بين الدول النامية.
كلما زاد من تملكنا للتقنية بالمعنى الواسع السابق ذكره وزاد تملكنا لها بمواردنا البشرية، زادت قدرتنا على تراكم رأسمالي غير معتمد على الدخل النفطي، أي على المالية العامة. وهذا يعني تناقص اعتمادها على النفط. ما مصدر المال؟ صادرات النفط. كيف؟ عبر الإيراد فالإنفاق الحكومي، لأن الحكومة هي المالكة للنفط وشركاته، وهي وحدها من يتسلم إيرادات النفط. وكلا الاثنين الإيراد والإنفاق الحكومي يعبر عنهما بالمالية العامة. وكون الحكومة مالكة للنفط أغناها عن فرض ضرائب.
الشرح السابق يعني أن من بيده المال هو المحرك للاقتصاد ونموه. وتبعا لذلك، فإن المال إذا قل ممن بيده، تضرر الاقتصاد وقطاعاته. ومعروف من هو الذي بيده المال في الاقتصاد النفطي.
السؤال التالي كيف؟
ارتباط المالية العامة بقطاعات الاقتصاد متشعبة ومتداخلة جدا.
فمن المال العام تدفع رواتب ومخصصات نحو مليون ونصف مليون ممن يعملون في الدولة من مدنيين وعسكريين. وهؤلاء بدورهم سيدفعون إلى آخرين مقابل خدمات وسلع أو مساعدات، والآخرون يدفعون إلى آخرين وهكذا في دورة.
ومن المال العام تدفع مبالغ طائلة إعانات وقروض ومساعدات، ومن المال العام تدفع مبالغ طائلة لمشروعات كبيرة وصغيرة. ومن المال العام تدفع مبالغ كبيرة لموردين أعدادهم بالآلاف. ومن المال العام تبنى المرافق والخدمات ويوفر التعليم والصحة مجانا، ومن المال العام تدفع مكافآت لمئات الآلاف من الطلاب والطالبات، ومن المال العام اقترضت وتقترض شركات المرافق العامة كالكهرباء، ومن المال العام خفضت أسعار سلع كثيرة جدا بالدعم المباشر وغير المباشر.
كل ما سبق يعني بالضرورة ارتفاع مستوى الدخل للسكان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ارتفاعه نقدا أو بصورة غير نقدية. وارتفاعه يعني بالضرورة قدرة شرائية أعلى. وكونها أعلى يعني قوة طلب أعلى على السلع والخدمات التي توفرها الشركات والقطاع الخاص عامة. وكون الطلب أعلى يعني مزيدا من الدفع، ومن ثم مزيدا من الأرباح للشركات. هذا الوضع بصورة عامة.
وفي كل الأحوال السابقة، فإن المال المدفوع مثلا لموظفي الحكومة أو مقاوليها أو مورديها أو متسلمي الإعانات والمساعدات أو القروض، هذا المال لن يبقى أسير جيوب من تسلموه بل سيدور بين أياد كثيرة، في دورة تعرف بالمكرر. وهذا الدوران يعني أن للشركات نصيبا منه، بل نصيب الأسد، بالنظر إلى أن القطاع الخاص والشركات هي التي توفر معظم الخدمات والسلع السوقية أي ذات الطبيعة التجارية، وليس الحكومة. وبلغة بسيطة نقول المتسلم من الحكومة يدفع لهذا، ومن دفع له سيدفع لآخر، وهكذا دورات تسلم ودفع يتأثر بها الجميع.
انخفاض أسعار النفط يدفع الحكومة إلى خفض إنفاقها، وهذا الخفض سيتأثر به الجميع بصورة مباشرة وغير مباشرة بصورة عكسية لما سبق شرحه. من وسائل وطرق خفض الإنفاق الحكومي خفض عدد ومعدل الوظائف المستحدثة، وتقليل ملموس في الإنفاق على مخصصات الموظفين غير الرواتب وخفض كبير في الإنفاق على المشروعات العامة، وعلى التعليم والصحة، وعلى الدعم بمختلف أنواعه. خفض الإنفاق الحكومي يؤدي إلى انخفاض في الطلب الكلي، وانخفاض الطلب الكلي سيؤثر سلبا في معدل النمو الاقتصادي، وسيقلل بطبيعته الطلب على منتجات الشركات، ومن تقل أرباحها عادة. ومن المهم جدا توضيح أن المقصود ليس كل شركة، بل الوضع العام. ما مقداره؟ يحتاج إلى تفصيل ليس هنا مقامه، ولكني لا أتوقع أن يكون حادا، لعدة أسباب منها توقع إدخال إصلاحات في المالية العامة، وتقليل اعتماد القطاع الخاص على المال العام. طبعا ما سبق لا علاقة له بتأثر شركات بعينها تعتمد على بيع منتجات مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنفط والغاز مثل "سابك"، التي تعتمد مبيعاتها على السوق العالمية. انخفاض أسعار النفط سيخفض أسعار منتجات تلك الشركات، ومن ثم أرباحها.
هناك جانب آخر، لتأثير انخفاض أسعار النفط، وهو جنوح إلى مزيد رشاد في الإنفاق الحكومي. وزيادة الرشاد تعني إدارة أجود للإنفاق الحكومي، وهذا بدوره يعني ربحية أقل للشركات سواء بطريقة مباشرة "تعاقد مباشرة مع الدولة لتوفير سلع وخدمات" أو بطريقة غير مباشرة.
هناك جانب ثالث، وأتوقع أن يزيد الحديث عنه في الأيام المقبلة، وهو جانب التخصيص، الذي أهمل مع الطفرة. والخصخصة تزيد من حجم القطاع الخاص. والأغلب أن ترفع التكلفة على المستهلكين وفي الوقت نفسه ترفع من دخول من يعملون في القطاعات المخصخصة، نظرا لأن الشركات الكبيرة تدفع عادة رواتب أعلى من الحكومة.
هناك جانب رابع وهو العجز. تمويل العجز يعني أن الدولة ستزاحم الشركات في الحصول على سيولة مصرفية. والمزاحمة أو زيادة الطلب على التمويل المصرفي ستغري المصارف برفع نسبي بسيط في سعر الفائدة على الشركات وتشديد نسبي بسيط في منحها تمويلات. وأقول بسيط لأن طلب القطاع الخاص والأفراد على التمويل المصرفي سيقل تبعا لآثار المالية العامة السابق شرحها، والمقام لا يسمح بمزيد تفصيل. الخلاصة: أن تأثير المالية العامة في الدول النامية المعتمدة حكوماتها على إيرادات الصادرات النفطية كبلادنا، تأثيرها في القطاع الخاص وشركاته قوي سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ومع انخفاض أسعار النفط والمتوقع استمراره، لا أتوقع أن يكون هذا التأثير حادا هذا العام والسنوات القليلة المقبلة، لعدة أسباب، منها توافر احتياطي كبير، وتوقع إدخال إصلاحات في المالية العامة، وتقليل اعتماد القطاع الخاص على المال العام. الأهم هو النظر على المدى الأبعد.