تاريخ الحدود .. من «التخوم» إلى الجدران المكهربة والمراقبة
ما كان من الممكن لموضوع كهذا: "الحدود بين الدول"، أن ينال حظه من المعالجة، لو طرح 30 أو 40 سنة خلت، حين كانت سياسة الأقطاب سيدة الموقف في العلاقات الدولية، أي حين كان الشعور السائد هو أن قدر الناس، أفرادا وجماعات، مسجل في سجل حتميات تنفلت من إرادتهم. وبالتالي الاصطفاف إلى هذا الفسطاط أو ذاك سرا أو علانية مكرهين غير مخيرين.
لكن منسوب حضوره في النقاش لا يزال ضعيفا مقارنة بما يتصل به من مشكلات ومآزق، فهو في أحسن الأحوال لا يأتي إلا على هامش متن تكون الأحداث والوقائع الساخنة موضوعه؛ فنسمع عن فتح هذا المدخل الحدود أو إغلاق ذاك المعبر... لكن لا أحد تساءل في عصر يدعي أنه بلغ الجيل الثالث من حقوق الإنسان عن أصل هذه الحدود، متى؟ كيف؟ لماذا؟ هل... إلى السؤال الألف من الأسئلة التي تعوق حرية التنقل التي تعتبر حقا من الحقوق المنصوص عليها في مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
مفارقة العولمة
قد يتلقى البعض الموضوع تلقيا سطحيا، ولن يتوانى عن اعتباره مجرد سفسطة ولغو الحديث في أفضل التوصيفات، غير أنه بقليل من التأمل والتحديق ندرك أن المسألة غاية الأهمية مع توالي الأزمات الإنسانية التي تقع جراء هذه الحدود أولا (سورية الآن، وقبلها ليبيا، غزة، لبنان، العراق، السودان، مالي، وإفريقيا الوسطى...). وثانيا بسبب مفارقة العولمة التي تسوق نفسها تحت بريق شعار أن الإنسانية ستكون أفضل من دون الحدود في وجه السلع القادمة من الشمال نحو الجنوب، وفي ذات الآن تفرض إقامة الجدران المكهربة والمراقبة ضد تهديدات التدفق البشري من الجنوب إلى الشمال حيث تفرض عليه قيودا صارمة وشروطا تعجيزية.
يزداد الاهتمام بالمسألة حين نلقي نظرة على التعريف الذي يقدمه مختصو علم السياسية لمفهوم الحدود السياسية، فهي: "خطوط وهمية لا وجود لها في الواقع، لكن وضعت بواسطة الإنسان لتحدد أراضي الدولة التي يحق لها ممارسة سلطتها وقوانينها عليها"، حيث تدخل كلمة "وهمي" لتزيد من الغموض الذي يكتنف الموضوع. في وقت يرفع فيه موري ريجيس دوبريه أحد أعلام الفكر السياسي الفرنسي المعاصر شعار "من لا حدود له لا مستقبل له" في كتابه "في مديح الحدود" (2010) مسجلا ما يعتبره نبوءة لشارل ديجول حين وضع على غلاف كتابه "النزاع عند العدو" الصادر عام 1924 شريطا ورقيا كتب عليه "إن ما سيؤدي بألمانيا إلى الخسارة هو احتقارها الحدود التي خطتها التجربة ورسمها الفكر الصائب والقانون".
أول الحدود
تاريخيا، نجد أن فكرة إقامة الحدود بين الدول حديثة نسبيا، إذ تعود إلى القرن التاسع عشر، فالمعروف في عصر المماليك والإمبراطوريات ثم الدول لاحقا هو التخوم. فهي حسب فردريك راتزل أب الجغرافيا السياسية: مناطق جغرافيا أو معالم فاصلة بين الوحدات السياسية (سلاسل جبلية، صحاري، أنهار...)، وتقوم التخوم أساسا في اتجاه الخارج بينما الحدود في اتجاه الداخل بالنسبة إلى الدولة. ويذهب محمد رشيد الفيل في كتابه "الحدود.. قنابل موقوتة أم سلم دائم؟" إلى أن أول حدود وضعت في التاريخ الحديث كانت في القرن السابع عشر لما وزع كارل شارلمان ملكه بين أولاده راسما حدودا بينهم.
#2#
بالعودة إلى الوراء نجد دوبريه يصرح بأنه لم يتم رسم حدود على الأرض بقدر ما تم خلال الخمسين سنة الماضية. 27 ألف كيلومتر من الحدود الجديدة تم ترسيمها منذ عام 1991، في أوروبا وفي أوروبا الآسيوية على وجه الخصوص. من جهته يؤكد ميشيل فوشيه الجغرافي والدبلوماسي الفرنسي أنه ما بين عامي 2009 و2010 أحصى 26 حالة نزاع حدودي خطير بين الدول.
انتقام الجغرافيا
من شبه المؤكد في العالم العربي والإسلامي ارتباط مسألة الحدود بالسياسة الاستعمارية، ومضرب المثل في ذلك اتفاقية سايكس بيكو (بين فرنسا وبريطانيا وروسيا عام 1916) التي رسمت فيها الحدود بين الدول بالمسطرة والقلم، دون مراعاة للتاريخ المشترك أو الأصول القبيلة أو الامتداد الجغرافي أو البعد القومي... أو غير ذلك من العوامل التي فصل فيها الأكاديمي الأمريكي روبرت كابلان في كتابه "انتقام الجغرافيا" (2012).
عربيا يذهب الكاتب ألفت عبد الله في كتابه "مشكلات الحدود العربية" (2005) إلى أن الحدود العربية تقدر بنحو 34492 كيلو مترا، وكان ظهورها في منطقة إفريقيا العربية أقدم من ظهورها في غيرها من المناطق العربية الأخرى، ويبلغ متوسط عمر الحدود العربية المرسومة نحو 70 عاما فقط. لكن هذا العمر القصير لم يمنع من قيام عديد من بؤر التوتر الحدودية بين معظم الدول العربية (المغرب/الجزائر، مصر/السودان، اليمن/عمان،...).
عن هذا الواقع المرير يمكن أن نتساءل أليست بريطانيا وفرنسا مسؤولتين عن كثير من الخلافات الحدودية التي ابتلي بها العرب؟ فالإنجليز والفرنسيون لم يدخلوا منطقة إلا وخرجوا منها تاركين وراءهم أزمات حدودية قابلة للانفجار كبرميل بارود؟ وذلك ما لم يتردد الزعيم البريطاني وينستون تشرشل ذات مرة بتأكيده، وبنوع من التشفي، "إننا تركنا وراءنا آثارا لا تزول بمائتي سنة". نتشح بالسواد ونحن نثير هذا الموضوع لا من باب التسلية والترفيه، بقدر ما حسرة وألما على واقع أمة تجمع لها من المشتركات في اللغة والدين والتاريخ والعادات.. ما لم يتوافر للأوروبيين ممن فكروا في اتحادهم سنوات بعد تأسيسنا جامعة عربية لا تكتمل بهية إلا في الأحلام. نثير الموضوع وفي النفس غصة على واقع الدول العربية التي حشدت من الأسلاك والعدة والعتاد والجيوش الشيء الكثير، في وقت تضع فيه إسبانيا والبرتغال صخرة معلما حدوديا بينها، إذ بقفزة لن تستغرق سوى ثوان تنتقل من دولة إلى أخرى. بينما وضعت هولندا وبلجيكا مقهى بينها. وشجرة بين التشيك وألمانيا والنمسا؛ تجد بجوارها نصبا مكتوبا عليه اسم دولة ألمانيا وإلى اليمين منه لافتة لجمهورية التشيك وإلى الشمال منه تقع النمسا. وفي أمريكا اللاتينية نجد كلا من الأرجنتين والبرازيل والبرجواي قد اختارت نهرا حدا فاصلا بينها.