البشرية .. وسن الرشد

هل وصلت البشرية إلى سن الرشد؟ وهل بلغ قلبها غايته في النبل الإنساني؟
كوارث الحروب والإرهاب والتطرف والسجون والمعتقلات والاغتيالات والتصفيات الجسدية ومعها عذابات الفقر والتخلف والجوع والتشرد.. جميعها تصرخ: لا.. لا.
حتى على مستوى الفكر والثقافة والفن والعلم والإعلام هناك طيش واضح وبعد عن الرشد ونبل القلب.. فهي حينا تكون منابع هذه الكوارث تحت تسويغات أيديولوجية فتؤجج البغضاء والكراهية وتهيئ الرقاب للجزار والميدان للدمار.. وحينا آخر تحمل في طابعها السجالي الانقضاض على بعضها بعضا بنزعة هجائية مستفزة تجنح للتسفيه بالرأي أو الذوق والطعن في النيات والتشكيك في المقاصد والميول.
ومع ذلك. فلست مع أولئك الذين يقفزون إلى المغالطة بأن الكلمة أخطر من السلاح.. لأن هذا يحمل في معناه تهاونا من خطر السلاح الغاشم وبما لا يقارن قط مع دور الكلمة مهما اشتطت في الغلو والتطرف والتي قد تحد من يقابل سوءها بسوء مثله، وليصح فيها قول المناطقة: نقد النقد إثبات!
إنه لأمر مثير للدهشة أن البشر وحدهم من بين جميع ممالك المخلوقات هم وحدهم من يدمرون ما ينجزون ويصيبون بالمرض والفقر والبؤس من يجهدون أنفسهم لإنقاذهم منها.. فلا ممالك الطير والحيوان والحشرات تفعل ذلك على النحو المرعب الذي يفعله البشر وحسب.
لا يلتهم الأسد في الغابة إلا قوت يومه بينما يلتهم واحد من البشر قوت الملايين، كما لا يستبد الأسد بالغابة لكن واحدا من البشر يستبد بمصائر شعوب ودول.. فأي رشد هذا الذي يزعمه الإنسان لنفسه وأي نبل لهذا القلب؟!
إن كانت قعقعة السلاح لم تهدأ وطاحونة الحرب لم تكف عن الدوران فلماذا ظل الفكر والفن والإبداع والاختراع والاكتشاف وغيرها من تجليات هذا العقل الإنساني أو نبض إحساسه، في حالة عجز عن الحيلولة دون وقوع الكوارث والمآسي.. فهل مرد ذلك إلى أن هذا العقل بدأ معوجا وأن نبض هذا الحس كان ملتبسا؟ وأن قصة مقتل قابيل لهابيل ـــ وهما وحدهما على هذه الأرض ـــ أصل في هذا العقل وهذا القلب البشريين؟!
هي أسئلة لم يسلم من وصماتها الديمقراطيون ولا الثوريون ولا اليمينيون ولا المتدينون ولا حتى البدائيون والمتحضرون فأصحاب المعابد تنابزوا أو تقاتلوا.. وأصحاب المراكز العلمية أو المؤسسات الفكرية أو الحقوقية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية فعلوا الشيء ذاته.
المفكرون والفلاسفة والعلماء والفنانون.. كلهم خاضوا معارك تحفل بقدر عجيب من الحط من شأن المخالف للرأي أو للذوق.. أو للمعتقد، فنادر هو الخطاب العاري من اللجاجة والسخرية والتنقص والهجاء.. ومن يطالع كتابات الخالدين والعباقرة أو يستمع للأحاديث التي تعج بها المنتديات والفضائيات والإذاعات لن تصعب عليه ملاحظة ذلك.. الأمر الذي يعيدنا إلى السؤال السابق ذاته: هل أن العقل البشري بدأ معوجا وكان القلب ملتبسا وأن هذه الاعوجاج والالتباس حتم فيهما، أم أنه قصور العزم فيهما كما يقول أهل الميكانيكا؟
إن كان الأمر كذلك فهذا يعني في النهاية تبريرا قدريا يقف إلى جانب الكارثة أكثر مما يقف إلى جانب الحضارة والسلام.. إلا أن ما يجعلنا نعتصم بالأمل من هذا المصير هو أننا لا نفتأ نجد نماذج بشرية تقف نفسها من أجل المحبة والسلام وتسعى إلى البلسم بدل العلقم.. سواء أولئك الطائفة من المصلحين أو من المثقفين والفنانين والمفكرين والفلاسفة والعلماء.. ممن قبضوا على الجمر ونذروا أنفسهم لحرية الإنسان وكرامته مترفعين عن الكيد والبغضاء بالانحياز إلى سعادة البشر بغض النظر عن اللون والجنس والعرق والثقافة.
لكن هؤلاء يعانون ـــ مع الأسف ـــ الإهمال والنبذ وعدم منحهم مكان الريادة والاحتذاء.. أو أنهم يتم استثمارهم في اتجاهات نفعية على مقاس الهوى والحاجة والمناسبة.. ومع هذا كله، أو على الرغم من ذلك كله فمثل هؤلاء هم السبيل إلى الإيمان بأن البشرية ـــ وإن بدأ عقلها معوجا وقلبها ملتبسا ـــ ستتمكن من بلوغ سن الرشد ونبل القلب، ولعل هذا قد يفسر هذه الرغبة الإنسانية للبحث في أجواز الفضاء عن مكان آخر للسكنى.
فهل يقوى البشر على تجاوز ما يدور في عقولهم وتجيش به صدورهم من نوازع الكارثة؟ أم يعيدوا استنساخها هناك؟ وأظنه سؤالا فظيعا.. إجابته معروفة نظريا.. لكنها مجرد معرفة حائرة.. أشبه ما تكون بحيرة المتنبي في قوله:
"كم سألنا ونحن أدرى بنجد
أطويل طريقنا أم يطول؟!"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي