رشيد بوطيب: فلتمت الفلسفة ولكن ليبق النقد
رشيد بوطيب كاتب مغربي مقيم في ألمانيا، من مواليد شمال المغرب عام 1973، بعد تخرجه من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، التحق بجامعة ماربورغ في ألمانيا، حيث درس الفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، وحصل على الدكتوراه بعدها من جامعة جوته بفرانكفورت، عن بحث يحمل عنوان: “نقد الحرية: في المنعطف الإيتيقي لإمانويل ليفيناس”.
صدر له عديد من الأبحاث بالعربية والفرنسية والألمانية والإيطالية، يدور مجملها حول قضايا الغيرية والديمقراطية والحوار.
صحيفة “الاقتصادية” تحاور هذا الفيلسوف الشاب الذي جمع بين الحسنيين؛ الاطلاع على الثقافة العربية والتمكن من الفلسفة الغربية، عن الواقع الثقافي العربي وأسئلة الحداثة المعطوبة ومستقبل الفلسفة لدى العرب.
دكتور رشيد أهلا وسهلا بك، وشكرا على قبول دعوة "الاقتصادية" للحوار، وعذرا على توصيف "الفيلسوف الشاب" الذي لا يعجبك لكنك كذلك، فأنت ناحت لمفاهيم جديدة في الساحة الفكرية العربية على سبيل المثال: "الضيافة النقدية"، "إيتيقا الضعف".. إلخ؟
لا أعتقد أنني قدمت شيئا يذكر للساحة الفكرية العربية. ولم أفكر البتة في ذلك. كل ما أريد هو أن أمارس حقي في النقد، كلما سنحت لي الفرصة بذلك. إن الساحة الفكرية العربية لا تشجع البتة على التفكير. ولا داعي لذكر الأسباب الموضوعية والذاتية التي تحول دون بناء تفكير نقدي في سياقنا العربي. والمؤلم أكثر هو أنه حتى جيل الشباب يسرع إلى الاحتماء بديناصور من الديناصورات الفكرية في عالمنا العربي، كما لو أننا جبلنا على الخضوع، بدلا من أن يختط لنفسه طريقه الخاص به ويطرح أسئلته المتعلقة بحياته، التي قد تلتقي بأسئلة الآخرين كما قد تختلف عنها. وبلغة أخرى دون أن يكتشف الفرد بداخله. هناك حيث لا يوجد الفرد، لا يمكنني البتة الحديث عن التفكير.
#2#
الحديث ذو شجون كما يقال فلنبدأه عن الحداثة، فأنت ممن يرى أن العرب ليسوا أكثر من مستهلكين للحداثة، وأنهم يعيشونها خارجيا وليس داخليا. كيف ذلك؟
يعود بنا هذا السؤال إلى ما ذكرته أعلاه. إن التربية التي تؤبد خضوع الجديد للقديم، والأبناء للآباء، لن تبني علاقة نقدية مع الحداثة، بل ستعمد إلى استهلاكها بشكل كاريكاتوري كما تستهلك ماضيها وتراثها. وحتى نقولها بشكل أوضح: إن الشخصية العربية تعيش الحداثة خارجيا لا داخليا. إن الحداثة في تعريف بسيط: هي القدرة على أن أعيش زمني. إنها تجربة حياة، وهي تجربة أخلاقية بامتياز. وحيث لا يسود الفرد لا يمكننا الحديث عن الأخلاق ومنه عن الحداثة. لكنا في عالمنا العربي، وكما كتب عبد الله العروي يوما: "نكتشف الدولة، قبل أن نكتشف الحرية".
ما تعليقك على مقولة "تنوع الحداثات" التي يطرحها باحث مغربي شاب مثلك "يوسف بلال" الذي يذهب مذهب الحديث عن "حداثة إسلامية".. فالحداثة في نظره سؤال وجودي لكن الأجوبة عنه تختلف باختلاف الثقافات والمجتمعات؟
لم اطلع على ما كتبه الباحث يوسف بلال. ولهذا لا أستطيع أن أقول شيئا عن أطروحته، إلا بما يفصح عنه سؤالك. أولا لا أعتقد بأن هناك تنوع حداثات، ولكن هناك مقاربات مختلفة للحداثة. فالحداثة وقيمها كل لا يتجزأ. إن الحداثة تتمحور حول الفرد وتؤكد حرية عقله وحرية جسده. كما أن الحداثة من ناحية ثانية: صيرورة، أي أنها لا تستمد قيمها من ماض أو تراث عظيمين، ولكن من تجربة الواقع، وثالثا إن الحداثة تملك قدرة على النقد والنقد الذاتي. ووفقا لرؤيتي إلى الحداثة، لا يمكنني أن أقول بشيء اسمه حداثة إسلامية، ولكن فقط بـ "إسلامية حديثة"، أي بشكل من أشكال التدين الذي يرتبط بالسياقات المتعددة لعصرنا. وبلغة أخرى، إن إسلاميتنا هي صدى لواقعنا الحديث وليست مؤسسة له. علينا أن نتحلى بقليل من التواضع كما أردد دائما، ونبتعد ما أمكن عن تلك اللغة المغتربة عن الواقع، وتلك المفاهيم التي أنتجها العصر الأيديولوجي العربي. إنني أشعر أحيانا أن أهم مهمة تعترضنا هي تلك المتعلقة بتحرير اللغة.
#3#
المتتبع لكتاباتك وأعمالك يجد في الكثير منها نفسا تشاؤمية ممزوجة "بقلق العبارة"، وقد كتبت تقول: "أحيانا، يدعونا التفكير إلى الانسحاب في صمت، والحفاظ على ما تبقى من ورق ومداد للأجيال المقبلة"؟
إن التفكير نفسه هو هبة التشاؤم. وكلنا يعرف أن التشاؤم يتضمن الشك ويخترقه القلق، ويسكنه اليأس. وهو في هذا وذاك تعبير عن الرفض، ورفض للنفاق، وللمشاركة في جوقة المطبلين والمزمرين. إن قلب الطاولة على هؤلاء يتطلب عملا كثيرا على الذات، وقدرة على العزلة، لقد كان نيتشه يسخر من الألمان وهو يردد: "إنهم ناس بلا عزلة، بلا عزلة حقيقية"، ولكن الأكثر من هذا وذاك، إنه يتطلب العمل من أجل بناء "رؤية ابنية" إلى العالم والإنسان، أي رؤية يتحول فيها الابن إلى مركز الثقافة وليس الأب أو السلطة. وهذا يعني فيما يعني ثورة تربوية ومعرفية وسياسية، وتفكيكا لخطاطة الشيخ والمريد التي تحتل الجسد والروح.
رغم ذلك كيف يرى رشيد بوطيب مستقبل الفلسفة في العالم العربي، بعدما اختطف منا الموت في العشرية الأخيرة أسماء ثقيلة في معادلة الفكر والثقافة بالوطن العربي (الجابري، أركون، بدوي، ...)؟
لا يهمني مستقبل الفلسفة بقدر ما يهمني مستقبل النقد. لتمت الفلسفة، ولكن ليبق النقد. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نختزل النقد في التفلسف. بل أحيانا قد تقف الفلسفة ضد النقد وضد تشكل روح نقدية، كما يفعل تيار واسع من الفلاسفة الغربيين في شرعنتهم للنظام الرأسمالي وللمركزية الغربية وإلخ.. إن التمحور حول الابن، كما سبق أن ذكرت، سيربطنا بالواقع أكثر، وبأسئلته، وسينفض عنا غبار الاغتراب التاريخي الذي ما زال يعلو كتابات بعض ممن يحسبون على الفكر في ثقافتنا. إنه سيحررنا من سطوة الوهم. إن سؤالي مختلف، فهو لا يتعلق بمستقبل الفلسفة، لأن ذلك في رأيي يظل أمرا ثانويا، فقد تكون الفلسفة كفنا للتفكير قد أدت دورها ولم يعد لها ما تقوله، ولكن سؤالي مرتبط بقدرتنا على أن نكون في المستقبل، أي بالمستقبل.
أخيرا نريد منك تعليقا على ثلاث كلمات في إجابات سريعة. "عبد الرحمن بدوي"، "النقد المزدوج"، "التاريخانية"؟
مدارس كان لها دور تنويري متميز. سنضطر لنخلف بعضها في الماضي، وسنلتقي بعضها في المستقبل.