البحر الأحمر والنهر البرتقالي

هل تساءلت عزيزي القارئ يوما عن سبب وجود بحار حمراء وأخرى سوداء وبيضاء بل وصفراء؟
أوليست كل البحار زرقاء؟ أولم يقل نزار قباني لمحبوبته:
هل تجيئين معي إلى البحر
لنحتمي تحت عباءته الزرقاء
هل تدخلين معي في احتمالات اللون الأزرق
واحتمالات الغرق والدوار
الحقيقة البديهية أن البحار ليست حمراء أو صفراء، وخلافا لما يعتقده نزار فهي ليست زرقاء تماما. البحر هو عبارة عن مسطح مائي كبير، والماء لا لون له. اللون الأزرق الذي نراه هو لون (سطح) البحر فقط. فلون الماء يعتمد على نوع الضوء الساقط عليه. ولأن الضوء يتكون أساسا من ألوان مختلفة بأطوال طيف متعددة، فلون الماء قد يختلف من مكان إلى آخر. بشكل مبسط: الماء يمتص اللونين الأحمر والبرتقالي (من أطياف الضوء) ويعكس اللون الأزرق. ولهذا يظهر سطح البحر باللون الأزرق. لكن لو ذهبنا إلى عمق أكثر من 50 مترا في أي بحر فإن اللون الأزرق يختفي ويسود اللون الأسود (ظلمات بعضها فوق بعض).
إذن فمن أين أتت تسميات البحار بالألوان؟ في المجمل هناك أربعة بحار تحمل أسماء الألوان: الأبيض والأصفر والأحمر وأخيرا الأسود.
بعض التسميات من السهل فهم مصدرها بالنظر إلى الطبيعة الجغرافية المحيطة كالبحر الأصفر (Yellow Sea) – شرقي الصين- والبحر الأبيض (White Sea)– شمال غربي روسيا. فبسبب ذرات الرمال الذهبية على سطحه التي تأتي مع هبوب العواصف الترابية من صحراء غوبي الشمالية، أطلق الصينيون مسمى البحر الأصفر على المسطح المائي شرق البلاد. أما البحر الأبيض فاكتسب الاسم من قطع الجليد التي تطفو أغلب أيام السنة على سطح هذا البحر المحاذي لدولة كارليا شرقي فنلندا. البحر الأبيض المتوسط يعرف باللغة الإنجليزية بالمتوسط فقط (Mediterranean Sea) وقد ترجع إضافة كلمة الأبيض في العربية إلى اتساعه.
التأويل يزداد صعوبة وغموضا عند الحديث عن البحر الأسود والبحر الأحمر.
هناك تفسيرات عدة لسبب تسمية البحر الأسود بهذا الاسم، أشهرها هو غرق كثير من السفن هناك وصعوبة الملاحة بسبب كثرة الأعاصير، ولهذا سمي البحر بالأسود تشاؤما. وهناك تفسير تاريخي منطقي بعض الشيء. فالإغريق – وفي روايات أقرب إلى الصحة: الأتراك- اعتادوا استخدام الألوان للدلالة على الاتجاهات، فمثلا الشمال كان اللون الأسود، وكذا الجنوب كان اللون الأحمر، أما الأخضر فيمثل الشرق، والأبيض يمثل الغرب. ولهذا كان البحر الشمالي هو البحر الأسود في حين كان البحر الجنوبي هو البحر الأحمر. وهذا الترميز ليس بدعا عند الأمم السابقة، فاليهود لم يكونوا يستخدمون الشمال والجنوب أيضا، بل كانوا يستخدمون الحدود الجغرافية – بدل الألوان- للدلالة على الاتجاه، فالغرب كان يمسى بالعبرية (يم) أي البحر، ويقصدون البحر المتوسط. الطريف أن الشرق (وليس الجنوب) كان هو الأحمر عندهم فهو كدم (أو أدم) وهو اللون الأحمر، والسبب قد يكون تلال إيدوم وهي حدود فلسطين من جهة البحر الميت.
الأمر أكثر غموضا بالنسبة إلى البحر الأحمر، فهناك تفسيرات علمية وأخرى تاريخية. فالعلمية تقول بوجود طحالب مميزة تعيش في بيئة البحر الأحمر الشديدة الحرارة والشديدة الملوحة. عند وفاتها، تقوم هذه الطحالب بإفراز أحماض ذات لون أحمر ملونة سطح الماء.
أما التفسيرات التاريخية فمنها ما ذكرناه سابقا حيث كان اللون الأحمر يرمز ببساطة إلى الجنوب، ولهذا سمي هذا البحر الجنوبي للإغريق أو الأتراك بالبحر الأحمر. وهناك تفسير آخر أكثر منطقية يقول إن الاسم أتى من الشعب أو الحضارة التي ازدهرت على ضفافه وهي الحضارة المصرية، حيث عرفت الأرض المصرية بالأرض الحمراء. وللتوضيح أكثر فقد كان المصريون يسمون الجانب الشمالي من مصر بالأرض السوداء (كميت في اللغة المصرية القديمة) لخصوبتها. في حين كانوا يسمون الجانب الجنوبي الصحراوي المجاور للبحر الأحمر ديشريت –أي الأرض الحمراء ويقصدون الصحراء، وهو قريب من المصطلح الإنجليزي ديسرت (Desert) الذي يحمل نفس المعنى. وقد تكون التسمية بسبب الحضارة الأخرى التي ازدهرت هناك وهي حضارة حمير، وهي مشتقة من اللون الأحمر. لم تكن الحضارة المصرية ثم الحميرية هي الوحيدة التي ازدهرت على ضفاف البحر الأحمر – وإن كانتا الأشهر والأقوى- فالعرب أيضا كان لهم حضور هناك، ولهذا كان الاسم اللاتيني القديم للبحر الأحمر هو (سينوي أرابيكوس) أي الخليج العربي!
وكما هو الحال مع البحار، فالأنهار أيضا اكتسبت أسماء ألوان عدة. لكن وبخلاف البحار – التي يوجد منها أربعة فقط سميت بأسماء الألوان- يوجد مئات الأنهار المسماة بالسوداء والبيضاء والحمراء وغيرها من الألوان. غالبا يطلق علماء البيئة مسمى النهر الأسود على الأنهار التي تخترق الغابات والمستنقعات وتكثر فيها المواد العضوية، ما يجعل الرؤية صعبة. يوجد عشرات من الأنهار المسماة بالأنهار السوداء وتكثر في مناطق الأمازون وجنوب شرقي آسيا. وكذلك تسمى بعض الأنهار بالبيضاء لنقاوتها وصفاء مياهها. لكن من أغرب الأسماء النهر المسمى بالنهر البرتقالي وهو النهر الأطول في جنوب إفريقيا. السبب في هذه التسمية ليس له أي علاقة بلون المياه أو التربة إنما هو تاريخي، وذلك أن (المستعمرين) الهولنديين الأوائل سموه كذلك تيمنا بملكهم المؤسس (ويليام أوف أورانج) فالهولنديون يعشقون هذا اللون. أما أغرب الأسماء في هذا المجال فلا بد أن تكون من نصيب أحد أجمل الأنهار في العالم، وهو نهر كانيو كريستاليس في كولومبيا والمسمى بنهر الألوان الخمسة أو النهر الذي نبع من الجنة. فهذا النهر يتلون بعدة ألوان في فترة بسيطة في الخريف، بسب وجود طحالب وأعشاب بحرية تنشط عندما يهبط مستوى الماء، فتصلها أشعة الشمس وتساعد على نموها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي