مصاب فرنسا .. والدرس الأسود

حين ضرب الإرهاب الأسود أمريكا في نيويورك في 11 سبتمبر 2001، جن جنونها ومعها العالم كله.. فلا أحد إلا ويلعن كل أشكال التطرف والعنف، فكيف حين يكون إرهابا غاشما راح ضحيته أكثر من 3000 إنسان بريء، حينها أعلنت أمريكا حالة طوارئ تحت قانون "باتريوت".
ومساء الجمعة الماضي 13 نوفمبر 2015 ضرب الإرهاب الأسود عاصمة الأنوار، باريس فسقط ضحيته 129 بريئا و350 جريحا بعضهم في حالة خطرة، وأعلنت فرنسا على أثره أنها في حالة حرب وحالة طوارئ على جميع الأراضي الفرنسية لأول مرة منذ عام 1955 وأطفئت أنوار برج إيفل وأغلق ومعه أغلقت المسارح ودور السينما ومتحف اللوفر وغيره من المتاحف واحتشد المسيحيون والمسلمون واليهود وغيرهم في قداس كنيسة لوتردام من أجل أرواح الضحايا. ومع أن كلاما، لا أكثر منه قد قيل في دور الغرب في صناعة الإرهاب، وفي انقلاب السحر على الساحر، خصوصا من أصحاب ذهنية المؤامرة، إلا أن الغرب ظل في إعلانه الحرب العالمية على الإرهاب أسير تردده في المواجهة، متمترسا خلف دور الاستخبارات والأنظمة الأمنية وتجفيف مصادر التمويل والقصف من الجو، أو الاستعانة بحكومات أو قوى محلية (كالصحوات في العراق) لأمد محدود ومهمة مرسومة، ولتترك بعدئذ فريسة ميليشيات الولي الفقيه في إيران.
اليوم جاءت هذه الصدمة الدموية المرعبة لفرنسا وللعالم اليوم لتعلن على نحو شنيع أن لا مكان آمن على الأرض.. وأن سرطان الموت والخراب لا يقف عند حاجز الجمارك ونقاط التفتيش، ولا ترصده عيون المخبرين وأجهزة التنصت مهما كانت يقظة وحساسة ودقيقة وأن الإرهاب يسري شبيحا مدفوعا بشهوة وحشية عمياء للقتل مبرمجة في عقول لا يدوي فيها إلا قهقهات الشيطان.
لقد تعامل الغرب مع الإرهاب على أساس (لعبة المصالح)، ولذلك استخدمه لأجندته، فتورط هو في استخدام الإرهاب له. وإذا كان مفهوماً، على المستوى السياسي منطق المصالح، في العلاقات الدولية.. فلأول مرة يكشر التاريخ عن ظاهرة شاذة تتملص من منطق المصالح وتتمرد عليه.. بل إن ظاهرة الإرهاب أثبتت بشذوذها عن منطق المصالح ومراوغتها له، أن الإرهاب لا يستثني أحداً، حتى نفسه، فالإرهاب علاوة على أنه انتحار يحقق ذاته بإفناء ذاته وحتماً إفناء الآخرين قبله، فهو لا يستثني من الإبادة حتى جماعة منه تبدي ولو ملمحاً من الاختلاف معه.
هذا الفناء المفني لذاته والآخرين، يعتبره الإرهاب مصدر قوته وسبيل تحقيق مشروعه الجهنمي بدولة لا يتنفس فيها حتى الهواء إلا بأمره؛ لأنه فائض كل الشرور.
هذا هو الدرس الأسود الذي أسفرت عنه الضربة الشنيعة للإرهاب المتوحش في باريس، وهو الدرس نفسه الذي كان قد ألقاه إرهاب 11 سبتمبر.. وبين الحدثين كانت دروس أخرى، غير أن الغرب كان في حالة إدمان لبرجماتية ليس هذا مجالها قطعا؛ لأنها جعلته أسير منطق المصالح في العلاقات الدولية، وهو المنطق غير الصالح حتما مع الإرهاب.
كانت برجماتية الغرب ومنطق المصالح هما مكمن سوء ما ظل يعده على أساسهما من استراتيجيات، وحاول إخضاع ظاهرة الإرهاب لهما فتخبط وفشل وبالتالي أذاق نفسه والعالم مآسي هذا الإرهاب.. فقد فاجأه الإرهاب بكيانية معجونة من الخبث والغدر وبنهم لشهوة الدم والدمار مسعوراً أبداً يسعى إليها حيث يقرر. ولأن هذا هو ما يبدو أن الغرب، قد اكتشفه، أو اضطر للاعتراف به، فهو اليوم يتحدث عن تغيير جذري في وسيلته لمواجهة الإرهاب.. ربما ليس بالتخلي عن استخداماته الراهنة وإنما مواجهة الغول في مكانه بدلاً من التلهي عنه أو إعاقته عن بعد طالما أن هذا الغول منشغل فقط بالتهام لحوم شعوب أخرى.. أما الآن.. فقد بات واضحاً أن هذا الغول ليس محكوما بمذاق لحم بعينه وإنما بكل مذاق اللحوم البشرية .. بل إن مجرد وجود بشر مختلفين أدنى اختلاف معه فذاك مهيج لوحشيته في أن تكون مائدته الدموية حيث هم!!
من المؤكد، أن هذا السياق، لا يعني القول إن (مصائب قوم عند قوم فوائد) فقد قالها على نحو مخز كاتب فقد اتزانه بعد أحداث 11 سبتمبر، وهو سيد القمني في كتابه (شكراً ابن لادن) .. يا له من تأويل بشع.. فمصائب الإرهاب أينما تقع تهز ضمير كل إنسان.
لكن، من المهم القول إن كارثة باريس، جرس إنذار كوني عالي الرنين يعلن أن التعامل مع الإرهاب على أساس برجماتي أو بمنطق لعبة المصالح، خيار قد سقط سقوطاً مدوياً، وإن كان قد ثم التصامم عن سماعه قبل 14 عاما والمراوغة في المواجهة على مدى السنوات الماضية، وتركت شعوب تنهشها غيلانه .. فإنه لم يعد مناص اليوم من منازلته وجهاً لوجه، فقد أزف أوان مواجهة الغرب له مع هذه الشعوب التي ترزح تحت ويلاته.
مع ذلك.. ستظل الخشية ماثلة في أن تكون المواجهة انتقائية .. فالقضاء على "داعش" دون ردع وقمع دواعش أخرى مثل ميليشيات حزب الله والحرس الثوري الإيراني يترك أمن المنطقة والعالم تحت غلواء تهديد طال بشروره لبنان والعراق وسورية واليمن والبحرين والسعودية ودولا أخرى وبشرا آخرين في أقاصي الأرض: فهلوسات "داعش" بدولة الخلافة، لا تختلف عنها هلوسات الولي الفقيه في إيران بإمبراطورية فارسية!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي