الجمعة, 2 مايو 2025 | 4 ذو القَعْدةِ 1446


البحيرة النووية

تعد روسيا من الوجهات السياحية المميزة التي بدأت تجذب أعدادا هائلة بعد الانعتاق من ربق الشيوعية الخانق. وإضافة إلى تاريخها العتيق ومعالم الحقب السابقة من الملكية مرورا بالشيوعية إلى الرأسمالية، تمتلك روسيا أماكن جذب؛ كالكرملين والساحة الحمراء وغيرهما. أما إن كنت من هواة السياحة الطبيعية فإنك سوف تول وجهك ولا ريب شطر الجزء الجنوبي من الدولة – على الحدود مع كازاخستان ومنغوليا- التي تبلغ مساحتها 17 مليون كيلومتر مربع. فالجنوب يزخر بعديد من المحميات الطبيعية كمحمية ألتاي وكوزنيتسك وغيرهما. إلا أن منطقة الجذب الأولى هناك هي بحيرة بايكال التي تعد البحيرة الأكبر في العالم، لكن حذار من الذهاب إلى بحيرة مجاورة وهي بحيرة كاراكي (Karachay) على الحدود الروسية الكازاخستانية. بالنظر إلى الصور المجردة، لا تختلف بحيرة كاراكي عن باقي البحيرات في روسيا، بل وفي العالم، لكن يمكن أن نسميها (ديونيا) البحيرات - ديونيا هي زهرة جميلة تجذب إليها الحشرات ثم تطبق عليها وتبتلعها في ثوانٍ. المشي بل حتى الوقوف هناك على شاطئ البحيرة الجميلة لمدة ساعة واحدة كافية لقتلك. كيف؟ فلنبدأ من البداية.
مع إلقاء الأمريكيين للقنبلة النووية فوق اليابان، بدأ السباق المحموم للتسلح النووي بين قطبي العالم آنذاك. وقتها أنشأ الاتحاد السوفياتي إحدى أسوأ المنشآت النووية سمعة في العالم، منشأة ماياك. لم يكن الكثير خارج الاتحاد السوفياتي، بل حتى داخله يعرف شيئا عن هذه المنشأة التي أحيطت بسياج عالٍ من السرية وكانت حجر الأساس في برنامج القنبلة النووية السوفياتية. ولم يتم الكشف عن تاريخها الأسود إلا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودخول العلماء إليها، حيث تم إعطاؤها مباشرة لقب المكان الأكثر تلوثا في العالم. لسنين طويلة كانت المخلفات النووية، بل حتى التسربات تنتهي– ومن دون معالجة كافية- في بحيرة كاراكي المجاورة. في البداية كانت المخلفات النووية تلقى في نهر تيكا القريب بلا مبالاة بحياة السكان هناك. مع الوقت زادت الإصابات بأمراض إشعاعية بنسبة أكثر من 60 في المائة ولم يسمح للأطباء بالكشف عن المرض وتم الاكتفاء بتشفيره في المراسلات بالمرض الخاص. وبعد ذلك تم تحويل المخلفات إلى بحيرة كاراكي وكانت النتيجة كارثية، إذ تلوثت مياه البحيرة تماما وما يقدر بأكثر من أربعة ملايين متر مكعب من المياه الجوفية. ما زاد الطين بلة والبحيرة تلوثا أن المخلفات النووية التي كان يتم إلقاؤها هناك كانت عناصر بنصف عمر منخفض (Half life) يقدر بأقل من ثلاثين سنة. أي أن نصف المادة الذرية غير المستقرة سوف تتحلل على شكل إشعاع ذري (Radioactive Decay) في ثلاثين سنة فقط. بالمقارنة فإن نصف العمر للبلوتونيوم -239 وهو العنصر الأساسي في صناعة الأسلحة النووية يبلغ 24.110 سنة! لم تتلوث البحيرة فحسب بل إن المواد النووية كانت تتطاير من شواطئ البحيرة في أوقات الجفاف لتغطي منطقة بمساحة أكثر من 2000 كيلومتر مربع. في تقرير حديث لمعهد وورلد ووتش الأمريكي، تم اعتبار بحيرة كاراكي المكان الأكثر تلوثا على سطح الكرة الأرضية.
ليست بحيرة كاراكي في الواقع البحيرة النووية الوحيدة في العالم. توجد بحيرتان أخريان تحملان الصفة أو التسمية الخطيرة ذاتها إحداهما صناعية والأخرى طبيعية. ولا عجب أن تكونا في الدولتين الأكثر تسلحا نوويا، فواحدة في كازاخستان – عندما كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي- والثانية في الولايات المتحدة.
البحيرة الاصطناعية في كازاخستان تدعى بحيرة تشاغان (Chagan) وتكونت نتيجة تفجير نووي تحت الأرض في عام 1965 م. وخلافا لبحيرة كاراكي التي تلوثت نتيجة التسربات النووية من المصانع النووية العسكرية، فهذه البحيرة أنشئت عمدا ضمن مشروع نووي سلمي. كان التفجير ومن ثم البحيرة أول وأشهر الاختبارات الأولية – التي قدرت بأكثر من مائة تفجير- لما عرف حينها بالبرنامج 7 وهو اختبار الاستخدامات السلمية للطاقة النووية في الاتحاد السوفياتي في مجالات الإنشاءات والتنقيب تحديدا. قدرت قوة الانفجار هناك بتسعة أضعاف القنبلة النووية التي ألقيت فوق هيروشيما وخلفت فوهة بقطر يقارب خمسمائة متر وعمق مائة متر. بعد تعبئة الفوهة من نهر تشاغان القريب تكونت واحدة من أكبر البحيرات في كازاخستان. رأى العلماء السوفييت وقتها إمكانية استخدام البحيرة لأغراض الزراعة وتربية الأسماك في تلك المنطقة من شرق كازاخستان التي تفتقر للكثير من الموارد المائية. التجارب الأولية وقتها أثبتت صعوبة استمرار الحياة البحرية حتى مع محاولات العلماء الحثيثة بإطلاق ما يقرب من أربعين نوعا من الأسماك على مدى سنين، التي لم تفلح حيث لم يتكاثر إلا نوعان فقط من الأسماك. على الرغم من عدم وجود معدلات إشعاع عالية بالقرب من البحيرة، إلا أن الماء لا يزال ملوثا بعد مرور نصف قرن على تكون بحيرة تشاغان، حيث ما زالت تحتوي مياه البحيرة على معدلات عالية من السيزيوم والسترونتيوم.
الطريف أن البحيرتين السوفياتيتين على الرغم من تلوثهما العالي لا تزالان تحملان اسميهما التاريخيين (كاراكي وتشاغان)، أما البحيرة الأمريكية التي تلوثت بشكل محدود ولمدة قصيرة جدا فتسمى وبشكل رسمي – ولسبب لا أفهمه- بالبحيرة النووية. فعلى ضفاف البحيرة الواقعة شمال مدينة نيويورك أقامت الحكومة معهد أبحاث للوقود النووي في عام 1958 م. وفي السبعينيات ونتيجة انفجار هناك، تسرب اليورانيوم المشع إلى البحيرة فاكتسبت هذا الاسم حتى وقتنا الحالي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي