الجمعة, 2 مايو 2025 | 4 ذو القَعْدةِ 1446


تزوير الشعر النبطي

تحريف الشعر وتزويره ظاهرة قديمة، ترجع إلى أسباب متعددة، من بينها: الدينية والسياسية والاجتماعية، وأحيانا لغرض الفكاهة والطرافة. ولوعدنا إلى تراثنا العربي لوجدنا أمثلة متعددة على ذلك.
ولا شك عندي أن محاولات تحريف الشعر تبدأ منذ عصر القصيدة، ولكن في ظل وجود الشاعر، والرواة الثقات الذين نقلوها عن قائلها، وسمعوها منه تفشل هذه المحاولات، لترجع هذه المحاولات وتزداد قوة في عصر لاحق.
وأحيانا قد يلجأ الشاعر ذاته إلى تحريف بيته وتبديله لأسباب أغلبها سياسي، وما قصة شاعر الخوارج مع الخليفة الأموي عنا ببعيد حينما لامه الخليفة على قوله "ومنا أمير المؤمنين شبيب "، وخشية من السيف والنطع قال للخليفة إنما قلت: "ومنا أمير المؤمنين شبيب ". وكذلك القصة المروية، التي تنسب لأبي نواس مع الخليفة هارون الرشيد حينما طلب الدخول على الخليفة فلم يسمح له، وكان الخليفة قد علق عقدا على جاريته السوداء "خالصة" فقال أبو نواس:

لقد ضاع مدحي على بابكم
كما ضاع در على خالصة

فاستدعاه الخليفة غاضبا ومعاتبا، وحينما رأى الغضب في وجه الخليفة قال كذبوا علي إنما قلت:

لقد ضاء شعري على بابكم
كما ضاء در على خالصة

وعلق بعض النقاد المتقدمين على هذا البيت فقال: "هذا بيت قلعت عيناه فأبصر".
والشعر النبطي ينطبق عليه ما ينطبق على سلفه الفصيح. وفي المرويات التي وصلت إلينا نجد رواية تفيد بأن أحد الأمراء حاول تحريف قصيدة للشاعر محمد العبد الله القاضي، فأدخل فيها بيتا من نظمه هو وليس من نظم القاضي، وكان ذلك بعد فترة قصيرة من قول القاضي لقصيدته. ولكن القاضي تبرأ من هذا البيت ونفى نسبته إليه. وإبان الأحداث السياسية والحروب التي دارت في العقود الأولى من القرن الرابع عشر تصلنا روايات متعددة عمن يدخل أبياتا في الهجاء ضمن قصيدة شاعر مشهور ليكيد له عند أحد الأمراء. ونجد أمثلة متعددة مشابهة لهذه القصة لأهداف تتمحور حول الأهداف التي أشرت إليها آنفا. ونستنتج من حجم المرويات القليلة التي وصلت إلينا في محاولة تحريف الشعر النبطي أن هذه الظاهرة لم تكن منتشرة، وكانت مكشوفة غالبا.
ولكن في العقود الأخيرة بدأت هذه الظاهرة تزداد بعنف وقوة، وتتجلى بشكل واضح عند ظهور الخلافات القبلية، ونظرا لأهمية الموضوع، وخطورته، فقد حرصت على تتبع هذه الظاهرة في محاولة مني لمعرفة مصادر التحريف والتزوير، وثبت لدي أن هناك من يتعمدون التزوير لأهداف بعضها عن حسن نية، والبعض الآخر عن سوء نية.
ومما يؤسف له أن بعض من جمع وألف في الشعر النبطي قد نقل عن بعض هؤلاء المزورين، وكان سببا في انتشار هذه القصائد المزورة والأبيات المختلقة.
وكان الشيخ حمد الجاسر قد نشر عبر دار اليمامة كتابا معروفا يتضمن مجموعة كبيرة من الأشعار النبطية، وكان مؤلف هذا الكتاب قد اعتمد على أحد الرواة المعروفين. وحدثني الشيخ حمد - رحمه الله – أن هذا الراوية المعروف زاره بعد نشر الكتاب، وخلال الحديث أخبره أنه قد عدل وبدل في بعض الأشعار التي رواها لمؤلف الكتاب. ولم يكن لراويتنا هدف سيئ من وراء هذا التحريف، فقد ذكر للشيخ حمد الجاسر ولغيره أن هدفه من وراء ذلك هو ألا يأخذ القارئ فكرة خاطئة عن مجتمعنا السابق عندما يقرأ أشعارا غزلية خصوصا لفتيات يعرضن القبلة لمن يبدي بسالة وشجاعة في المعارك، أو عاشق متيم. لذلك كان يضيف أبياتا توحي بأن ذلك كان على سبيل المزاح. وحينما لامه بعض الباحثين على فعله هذا ذكر لهم أنه قد استفتى أحد علمائنا الأجلاء. ولا شك عندي أن هذا العالم الجليل – رحمه الله – لا يمكن أن يفتي بذلك إذا تبين له الأمر بشكل واضح، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، والمفتي يفتي حسب ما يسأل عنه ويعرض عليه، فإذا دلست عليه المسألة وتم إيهامه، وشرح الأمر له خلاف حقيقته، فإنه يعتبر مجيبا عما قدم له، وليس عن حقيقة الأمر.
وخلال السنوات الماضية التقيت أشخاصا حاولوا إقناعي بأكاذيب يلفقونها، وعرفت بعد ذلك أن هذا ديدنهم مع كثير من الباحثين.
وحدثني الثقات وسموا لي شعراء معاصرين يقومون بتحريف وتزوير واختلاق الأشعار لإضفاء أمجاد على الأجداد، أو لتشويه أجداد المنافسين، ولتغيير واقع التاريخ، وقلب الهزائم إلى انتصارات، وانتصارات الآخرين إلى هزائم، وغير ذلك.
كل هذه الأمور تجعل الحاجة ملحة إلى اتخاذ إجراءات مضادة لحماية تراثنا من العبث والتحريف والتزوير، تبدأ أولا بالتحذير من هذه الفئة وتنتهي بعمل جاد لنشر شعرنا النبطي بشكل علمي، والمشروع الأخير دعوت إليه مرارا وتكرار، وسبقت لي الكتابة عنه، ووضعت منهجية متكاملة لإعادة تحقيقه، آملا أن تقوم إحدى الجهات الثقافية بتبنيه، والقيام بتنفيذه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي