في هجاء الإرهاب
يستحق الإرهابيون جميع الأوصاف البشعة، فلا جور في رجمهم بها، لكن ذلك لن يغير من الحقيقة شيئا، ولن يعدو كونه نوعا من التنفيس عن الحنق عليهم والازدراء لهم، بل هو قد يدفع بعضهم إلى الإمعان في التوحش وشعارهم: علي وعلى أعدائي!!
ومن الواضح أن القاموس الهجائي ضد الإرهاب قد استنفد، في بلداننا العربية، رذائل الأوصاف فيه، على المستويين الثقافي والعام، بينما يلفت الانتباه أن الغرب في كتاباته وحواراته عقب 11 سبتمبر 2001 لم يكن مكتظا بالهجاء للإرهاب وإنما بالبحث والتحليل ... وكان سؤالهم المفصلي: لماذا يكرهوننا؟! وهو الموقف ذاته الذي تكرر مع أحداث باريس 13 نوفمبر 2015 وفي أوروبا كلها..
نعم.. لقد فجع العرب أن تنسب للإسلام هذه الأعمال الوحشية فأجمعوا على استنكارها.. لكن الملاحظ أن هذا الاستنكار في منابذة التطرف كان شبه غائب مع نذر خطاب الصحوة الغليظ وسلوكياتها العنيفة، بل أحيطت الصحوة بالدعمين المادي والمعنوي، على المستويين الرسمي والشعبي وتركت تكتسح العالم العربي ومعه بلدان إسلامية، ووصلت زمر منها إلى بلدان الغرب، وغضت انتهازيات حكوماته الطرف عنها لمآرب خاصة بها، موفرة لهم اللجوء بكل ما يعنيه من سكن ومدارس وعلاج ومعيشة مع الصراخ ضدنا في المنابر وفضاء الإعلام.
- فلماذا يشتط العرب في هجاء الإرهاب؟ هل هو موقف من الإرهاب بذاته من حيث هو إرهاب.. مهما كان نوعه وحيثما وقع؟ أم لأنه اقترن بالإسلام؟
- سأبدأ أولا بالإجابة عن هذا التساؤل من آخره، فقد قيل في التعليل لما حدث ويحدث بأنه تم بسبب استغلال المتطرفين للعاطفة الدينية عند الناس، وهو تبرير صحيح لكنه تبرير يعني من ناحية أن هذه العاطفة كانت لديها القابلية كي تستجيب لخطاب رشيد بفكر عقلاني سديد لو أعطيت له الفرصة ذاتها والامتيازات نفسها. كما يعني من ناحية أخرى أنه موقف لا يؤكد أن الموقف كان من الإرهاب بذاته من حيث هو إرهاب، مهما كان وحيثما وقع بدليل أن البعض لم يتمالك ابتهاجه بأحداث نيويورك واعتبرها بعض آخر مؤامرة.
ثانيا: قوبل الإرهاب على المستوى الشعوري الذاتي بإحساس بالتهديد ما لبث أن تنامى إلى شعور جمعي بالخطر، خصوصا وقد أخذت الأحداث الإرهابية تتكشف عن حقد أعمى يطول الخاص والعام كما لعبت الخطابات الإعلامية والثقافية والفكرية والدينية دورها في شجب ضلال ادعاءات الإرهابيين ومنافاة أفعالهم لصحيح الدين .. فكان ذلك كله مدعاة لشحن الناس ضده .. بأقسى الألفاظ كتعبير لا شعوري مكثف لفك الارتباط من خلال فك الارتباط بين الإسلام والإرهاب.
ثالثا: تراثيا .. نحن أمة يعتبر شعر الهجاء واحدا من أبرز فنونها .. فلا يكاد شاعر منذ العصر الجاهلي حتى اليوم، إلا واشتهر به أو كتب شعرا هجائيا .. ومعظم الجمهور العربي يحفظ أبياتا من الهجاء، وبعض يحفظ قصائد .. حتى من لا علاقة له بالشعر .. سواء كان من الفصيح أو العامي.
ولا يخفى كيف يتناقل الناس قصيدة هجاء بسرعة البرق، كما يتناقلون بحفاوة غريبة المقالات التي تهاجم وتهجو (مسح البلاط) .. وما انتشار التغريدات الناشزة على التويتر أو الرسائل التهكمية في الواتس وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي إلا دليل حاسم على ذلك، بينما لا تلاقي الروائع الشعرية والمقالات الجادة رواجا يذكر.
رابعا: يشكل التباس مفهوم المواطنة في الوعي العام دوره في استمرار النزعة الهجائية، فهو مفهوم لا تعريف حقوقي له ويعاني عدم الرسوخ على أسس عابرة للفئات والنعرات القبلية والإقليمية والمذهبية، يتعذر بسببها الاحتكام إليه كإطار جامع لعيش مشترك قائم على الاحترام المتبادل في الداخل واحترام للآخر في الخارج..
وهذا الالتباس في مفهوم المواطنة يجعل الهوية الوطنية مجالا للمزايدة ويجعل الوطن نفسه سوقا للمضاربة على الولاء له والانتماء إليه، بكل ما تعنيه المضاربة من انفعالات حادة. أول شررها التنابز بألفاظ مستفزة يشتهر بها الشارع العربي وتتبدى حتى في الحوارات النخبوية، فكل يعتبر نفسه وطنيا أكثر من سواه!!
خامسا: يلعب غياب النقد العقلاني الناجم عن غياب الفلسفة في ثقافتنا دوره السلبي، فلا الفلسفة نسق معرفي في معظم مناهج التعليم ولا هي حاضرة في الحياة الثقافية .. فنادرا ما تناقش القضايا أو الظواهر الاجتماعية والثقافية والحضارية في إطارها الفلسفي .. مما كرس في الذهنية الركون إلى التلقي والاستقبال، وعطل فيها ملكة التفكير الموضوعي والعلمي وبالتالي قاد إلى الوقوع فريسة تحت وطأة السائد والمألوف أو الانسياق مع الهوى والمزاج والمجاراة أو التشوش والانفعالية واللجوء إلى اللجاجة على حساب الرجاحة.
ومثلما لم تتغير الدنيا بأكداس هجائيات الشعر والنثر، فإنه لن يهزم الإرهاب هجاء لفظي أو حتى مضمون هجائي وإنما ينهزم حين يكون مضمون القول والحديث عن الإرهاب فضحا معرفيا منهجيا له للبحث في جذوره التاريخية في سياقاتها السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية على أرض الواقع فذاك هو السبيل لاجتثاث الإرهاب من جذوره، بل إخصاب الأرض بما لا يسمح لنبتة منه أن تقوى على النمو!!