الأربعاء, 7 مايو 2025 | 9 ذو القَعْدةِ 1446


تصحيح المفاهيم المائية (2).. الأسنان السوداء

سبق للجميع شراء مياه معبأة أو معلبة للشرب، وأجزم أنه سبق للكثيرين أيضا قراءة المحتويات الموجودة على الغلاف والتي تحتوي على بعض الكلمات المفهومة وعلى كثير مما يكتنفها الغموض. سنقوم في هذه المقالة والمقالة القادمة بشرح المكونات الرئيسة وإلقاء الضوء على هذه المفردات والأرقام. إن نظرة خاطفة إلى المعلومات المدونة على أي علبة مياه شرب سوف توضح وجود مصطلحات أساسية مثل: جدول للأملاح الموجودة في الماء، والعسر الكلي، والرقم الهيدروجيني. اليوم سنتحدث عن أحد هذه العناصر في جدول الأملاح الذائبة وهو عنصر الفلورايد.
الفلورايد عنصر طبيعي موجود في جميع مصادر المياه تقريبا بنسب متفاوتة لكن في الغالب قليلة. وخلافا لبقية العناصر الأخرى التي قد تؤثر سلبا في صحة الجسم، للفلورايد تأثير مختلف تماما وهو سلامة وصحة الأسنان. وخلافا للعناصر الأخرى التي يمثل بسيطا لها والأغلبية تأتي من الغذاء، فإن الوضع هو العكس بالنسبة لهذا العنصر. البداية كانت في نابولي في إيطاليا مع بداية القرن الماضي وتحديدا في 1901 حيث لاحظ أحد الأطباء تلون أسنان مجموعة من سكان القرى المحيطة بنابولي باللون الأسود. انتشرت هذه الظاهرة حتى تميز المهاجرون الإيطاليون إلى أمريكا والمنحدرون من نابولي بالأسنان السوداء. بعد البحث والتقصي وجد هذا الطبيب أن العامل المشترك هو شربهم ماء مشبعا بالأبخرة البركانية – الذي اتضح لاحقا وجود الفلورايد فيه بنسب عالية. وتمت أيضا ملاحظة الظاهرة ذاتها في 1916 في كولورادو في أمريكا عن طريق أحد أطباء الأسنان ويدعى فردريك ميكاي - قضى 30 سنة في دراسة العلاقة بين الفلورايد ومشكلات الأسنان - الذي استنتج وجود مادة في الماء تؤدي إلى مشكلات الأسنان لدى مرضاه وتلونها تحديدا باللون البني في ظاهرة عرفت لاحقا ببقع كولورادو البنية (Colorado brown stain). واقترح ميكاي لمرضاه وللبلدة تغيير مصدر الماء وهو ما حدث فيما بعد وأثبت فعاليته لاحقا. ولم يتم تحديد هذا العنصر إلا في نهاية العشرينيات من القرن الماضي عن طريق عالمين مختلفين في بيتسبرج في الولايات المتحدة، حيث تم الربط ولأول مرة بين وجود التركيز العالي للفلورايد في مياه الشرب وضعف أو تآكل الأسنان (لم أجد ترجمة مناسبة للمقابل الإنجليزي Dental Fluorosis ).
لو كان الفلورايد شرا كله لتمت إزالته كليا من الماء وأصبح التعامل معه سهلا، فلماذا لا يزال موجودا في مياه الشرب إذا؟ المعضلة هي وجود فائدة مهمة للفلورايد وتحديدا للأسنان! فقد تبين أن وجود الفلورايد بتركيز معين مهم لمنع تسوس الأسنان وتزداد الأهمية لدى صغار السن، وهذا هو سبب وجوده في معاجين الأسنان المختلفة. التحدي إذن هنا هو في إيجاد التركيز المناسب للفلورايد في الماء. فالقليل منه مهم لمنع تسوس الأسنان والكثير مضر وقد يتسبب في تآكل أو تبقع الأسنان. هناك دراسات وأبحاث كثيرة جدا تمت في هذا المجال لكن من غير إجماع. الأرقام المتداولة تقترح تركيزا أعلى من 1 ملغ لكل لتر وأقل من 4 ملغ لكل لتر- الرقم المقترح من منظمة الصحة العالمية هو 1.5 ملغ لكل لتر. هذه المعضلة مع الفلورايد – فائدته عند تركيز منخفض وضرره عند تركيز عال- أدت إلى وجود أجهزة لإزالته من الماء وأجهزة لإضافته إلى الماء في محطة واحدة لمعالجة الماء في بعض الدول. ففي الصيف – ولأن الشخص يستهلك كميات كبيرة من الماء- تتم إزالة الفلورايد من الماء لئلا يزداد استهلاكه اليومي. أما في الشتاء وبسبب انخفاض استهلاك الماء تتم إضافة الفلورايد للماء لكي يحصل الشخص على الكمية اليومية المناسبة.
حاليا يقوم كثير من الدول بإضافة الفلورايد إلى مياه الشرب حيث تبلغ النسبة مثلا في الولايات المتحدة 70 في المائة من مجمل السكان وفق إحصائية عام 2006.
وإليه – أي إضافة الفلورايد إلى الماء - يعزو المختصون انخفاض نسبة تسوس الأسنان لدى الأطفال إلى 40 في المائة. وهو ما عده مركز التحكم في الأمراض في الولايات المتحدة أحد أهم عشرة إنجازات في مجال الصحة العامة. على الرغم من هذا النجاح إلا أن إضافة الفلورايد إلى الماء في أمريكا لاقى معارضة شديدة في البداية – كما حصل مع إضافة الكلور إلى الماء كمعقم مع بدايات القرن العشرين. المعارضة الأمريكية كانت تتمحور حول أحقية الدولة في إضافة مواد كيميائية إلى ماء الشرب من غير موافقة المواطنين، فحتى لو أراد المستهلك إزالة الفلورايد من الماء في منزله فإنه سيحتاج إلى أجهزة متطورة جدا. الطريف أن المعارضة الأقوى هناك جاءت من جهة غير متوقعة وهي معارضة المد الشيوعي وذلك في أوج الحرب الباردة في نهاية حقبة الخمسينيات. فلسبب غير معلوم كانت هذه المعارضة ترى أن إضافة الفلورايد إلى الماء جزء من خطة شيوعية لإسقاط أمريكا، الخطة كانت تسمى "الثلاثي المدنس" وتضم أيضا التطعيمات والأمراض العقلية!
على الرغم من الآراء المختلفة إلا أن الأغلبية ترى وجود الفلورايد بنسبة في حدود 1 ملج لكل لتر مفيدة للأسنان. في المقال القادم سوف نتحدث عن عناصر أخرى موجودة على أغلفة كل المياه المعبأة، ولها تأثيرات صحية مختلفة وهي الكالسيوم والمغنيسيوم والنترات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي