بطارية الاقتصاد الإيراني تقترب من النفاد
منذ أكثر من عامين خاض الرئيس حسن روحاني انتخابات الرئاسة الإيرانية، بحملة انتخابية تبلورت حول مجموعة من الشعارات الاقتصادية، والوعود الانتخابية تمنيهم باقتصاد أفضل، ومرت أكثر من خمسة أشهر على توقيع الاتفاق النووي الدولي، وما رافقه من حملة إعلامية من قبل السلطات الإيرانية انصبت على إقناع مواطنيها، وخاصة أبناء الطبقة المتوسطة الذين عانوا بشدة من سنوات الحصار الاقتصادي، بأن الغد مليء بالإنجازات والنجاحات الاقتصادية، وأن سنين الحرمان والحصار قد ولت بلا عودة. والسؤال الذي طرحته الأيام: ما حقيقية الوضع الاقتصادي الإيراني؟ وماذا يحمل الغد في طياته لاقتصاد أحد أبرز البلدان المنتجة للنفط؟
ربما تحسم الأرقام الكثير من الإجابات، وتبين الحقائق المرتبطة بوضع الاقتصاد الإيراني، حيث يشير المركز الإحصائي الإيراني ــ جهة رسمية تابعة للدولة ــ في اخر تقرير له إلى وجود 64 مليون إيراني في سن العمل، إلا أن عدد العاملين منهم بالفعل 23 مليون شخص. وفي تصريح رسمي لعلي ربيعي، وزير القوة العاملة الإيراني فإن من بين 23 مليون شخص يعملون هناك سبعة ملايين يعملون في قطاعات غير رسمية أو ما يسمى اقتصادات الظل، الذي يشير تقرير صدر أخيرا للبنك المركزي الإيراني إلى غياب رصد حقيقي ودقيق ورسمي لطبيعة اقتصادات الظل في إيران، ومدى مساهمتها الحقيقية في النشاط الاقتصادي.
ويضيف التقرير: “إنه نتيجة تفشي الفساد والمحسوبية في عديد من المؤسسات الاقتصادية وفي مقدمتها المصارف التجارية، فإن غالبية المصارف تقوم بمنح قروض بأسعار فائدة تفضيلية لمستثمرين تحت دعوى إنشاء أو تطوير مشروعات اقتصادية قائمة، إلا أن تلك القروض لا تسدد غالبا سواء عبر التحايل أو إن العائد المالي أو الاقتصادي لها يظل محل شك في أغلب الأحيان.
من جهته، يشير تقرير البنك الدولي إلى أن إيران لديها أعلى معدل تضخم في العالم بعد فنزويلا والسودان والأرجنتين وروسيا البيضاء، بينما تذهب تقديرات رسمية إلى أن معدل التضخم يبلغ حاليا 11 في المائة. وتشير تصريحات لمسؤولين حكوميين إلى أن التضخم وصل إلى 25 في المائة، بينما تؤكد مصادر في المعارضة أنه يراوح بين 32 و35 في المائة.
من جهته، أكد لـ “الاقتصادية” الدكتور ماك كروك المختص في الاقتصادات الناشئة أن الوضع الاقتصادي الإيراني دخل عمليا مرحلة الركود، فتراجع أسعار النفط تواكب مع مجموعة من السياسات الاقتصادية التي أخفقت في دفعه للأمام أو إخراجه من دائرة الركود، وبدت السياسات الاقتصادية مرتبكة وغير واضحة المعالم”.
وأكمل البروفيسور إسماعيل زاده المختص في الاقتصاد الإيراني، أن طهران تشهد حاليا صراعا بين تيارين، الأول يعتقد أن المشكلة الاقتصادية الراهنة مشكلة تقنية مرتبطة بالإدارة وبإيجاد التوازن بين العوائد والنفقات، وأنه يمكن التغلب على الوضع الاقتصادي المتردي عبر إعادة هيكلة الميزانية العامة، أو خفض قيمة العملة الإيرانية، أو خفض معدلات البطالة، حتى وإن تم ذلك عبر زيادة البطالة المقنعة في المؤسسات الحكومية أو الرسمية.
وأشار إلى أن هذا التيار يحظى بتأييد المرشد الأعلى آية الله على خامنئي ومجموعة المستشارين المحيطين به والمؤسسات الرسمية للدولة الإيرانية كافة، لكن الداعم الأكبر لهذا التيار والقوة الصلبة خلفه هم قادة الحرس الثوري الإيراني، المستفيد الأكبر من توازنات القوى الاقتصادية الراهنة داخل إيران، والمهيمن الفعلي على الدولة.
وأضاف: “إن أحد أبرز رموز التيار الثاني هو محسن روناني الاقتصادي في جامعة أصفهان، الذي صرح قبل أشهر لصحيفة “اعتماد” الإيرانية بأنه لا يوجد أفق لتحسن الاقتصاد الإيراني في القريب العاجل، وأن إيران لديها مشكلات اقتصادية عاجلة تسبب فيها الحصار الدولي، ولكن يمكن التغلب عليها، إلا أن هناك مشكلات أخرى أكثر عمقا وتعقيدا في النظام الاقتصادي وستقود الدولة والمجتمع إلى أزمات أصعب، وأن الحكومة لن تستطيع التغلب عليها بمفردها، ويتطلب التصدي لها تغيير النظام والعقيدة السياسية القائمة”.
وأكمل البروفيسور إسماعيل: “هذا النوع من التصريحات لم يكن من الممكن قوله بهذه الصراحة قبل أشهر، لكن انخفاض أسعار النفط والأزمة المالية الراهنة، والضغوط التي تتعرض لها الطبقة المتوسطة بشكل يومي، دفع الكثيرين إلى الاقتناع بأن الخروج من الأزمة الاقتصادية يتطلب تغيير النظام السياسي والتخلص من هيمنة التحالف الراهن بين رجال الدين وقادة الحرس الثوري على المشهدين السياسي والاقتصادي”، حيث يبدو واضحا الآن أن تفاقم الأزمة الاقتصادية لم يعد من الممكن إخفاؤه أو التحايل عليه بعمليات محاسبية تجميلية، ودفع ذلك بكبار المسؤولين، وفي مقدمتهم علي طيب نيا، وزير الاقتصاد، إلى التصريح بشكل علني بأن انخفاض أسعار النفط أوجد “ظروفا اقتصادية صعبة” تتجاوز في حدتها فترة الحرب العراقية ــ الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، واأن الحكومة ستقوم في شهر مارس المقبل بإعادة النظر في الميزانية على أساس سعر النفط 40 دولارا للبرميل.
وتشهد إيران حاليا أزمة واضحة فيما يتعلق بقدرة البنك المركزي على توفير الاحتياجات المطلوبة لاستيراد السلع الأولية، بحيث وصل الأمر إلى انتظار عديد من سفن الشحن لأسابيع في ميناء بندر عباس، لرفضها إفراغ حمولتها حتى تتسلم قيمتها، وهو ما رفع تكلفة الاستيراد نظرا لأن القيمة اليومية لغرامة التأخير تبلغ 30 ألف دولار.
ويعلق الدكتور بول هيدج أستاذ المالية العامة في جامعة ليدز قائلا “لا يوجد من خيار أمام البنك المركزي في مثل هذه الظروف غير ربط الأحزمة، وخاصة في ظل معرفة النظام المالي الإيراني مسبقا بتراجع عوائده المالية المستقبلية من العملات الأجنبية، وهذا الوضع الراهن يدفعنا إلى القول إن بطارية الاقتصاد الإيراني قاربت على النفاد”.
ولم تمنع الفوضى التي تضرب الاقتصاد الإيراني وزير المالية من محاولة إيجاد أي وسيلة ممكنة للخروج من الأزمة عبر الترويج لفكرة إمكانية جمع مليارات الدولارات ببيع سندات حكومية دولارية للمستثمرين الأجانب، ويأمل الوزير الإيراني أن يسفر ذلك عن جمع نحو 500 مليون دولار هذا العام بطرح السندات الإيرانية في الأسواق الدولية.
من ناحيته يستبعد تيد براون، كبير المحللين الماليين في مجموعة “إل إم” الاستثمارية نجاح التجربة الإيرانية، مشيرا إلى أن الحكومة الإيرانية تعتمد في تلك التجربة على تجربة مماثلة قامت بها عام 2002، حيث حصدت مليار يورو من بيع سندات حكومية، لكن الأوضاع الاقتصادية والسياسية الآن مختلفة، حيث إن ثلثي السندات التي بيعت عام 2002 كان المشترون من بلدان منطقة الخليج العربي، والآن الأوضاع السياسية في أعلى درجات التوتر، وخاصة بعد الاعتداء على سفارة السعودية في إيران وحرقها وقيام الرياض بالرد بقطع العلاقات، ولذلك يصعب توقع إقبال المستثمرين الخليجيين على الاستثمار في إيران بشراء السندات الحكومية، كما أن دعم إيران للنظام السوري وتورطها سواء بالقتال المباشر أو عبر الميليشيات المؤيدة، يجعل من الصعب توقع شراء مستثمرين خليجيين السندات الإيرانية”.
وأضاف: “من المستبعد على طهران المراهنة على المجتمع الدولي في بيع سنداتها لمستثمرين غربيين، فطهران لم تفلح حتى الآن في اكتساب ثقة المصارف أو الشركات الدولية الكبرى، وفي الأغلب سيكون تقييم المؤسسات المالية العالمية للسندات الإيرانية، تقييما منخفضا يتساوى مع سندات كينيا ونيجيريا، التي تراوح بين B- وB+. ولتتغلب إيران على تلك المشكلة فإن عليها رفع العائد على السندات إلى مستويات عالية مثل 8 في المائة، ولربما يمثل هذا مشكلة أكثر تعقيدا على الأمد الطويل، إذا واصل سعر النفط الانخفاض”.
وتزداد التوقعات وسط تلك التطورات بمقدار تنامي التعقيدات في المشهد الاقتصادي الإيراني السلبية بشأن النمو خلال العام المقبل، التي توقع صندوق النقد الدولي أنها ستراوح بين 0.5 في المائة وــ 0.5 في المائة، ويعتقد عدد من الاقتصاديين ،ن تراجع النمو لربما تكون له نتائج وخيمة تتجاوز النطاق الاقتصادي.
وقال الدكتور جيرمي فرانك الاستشاري السابق في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية: “القضية لا تقف عند حدود تراجع معدلات النمو الاقتصادي الإيراني فحسب، بل تزايد الفئات العمرية الشابة، وارتباط تلك الفئات بالتكنولوجيا الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي ومتابعة وسائل الإعلام الدولية الخارجة عن سيطرة الحكومة الإيرانية، يزيد الوعي الجمعي، ويجعل هناك تساؤلات حول أسباب الفروق الطبقية الضخمة الراهنة في المجتمع، وتمتع نخبة محدودة من قيادات الدولة والحرس الثوري وأجهزة الأمن ورجال الدين وبعض رجال الأعمال المقربين من السلطة بأوضاع مالية مريحة، في الوقت الذي تتزايد فيه معدلات التضخم والبطالة، كلها أمور تزيد من فرص الانفجار الداخلي وردة فعل غير متوقعة من الشعب.
وحول فكرة الانفجار الداخلي نتيجة الاحتقان الشعبي، أشار إلى أن هذه الفكرة تظل شبحا يهيمن على الأجواء الإيرانية حاليا، بطريقة تعيق من قدرة الحكومة على إقناع المصارف الدولية أو المستثمرين العالميين على الاستثمار في الاقتصاد الإيراني. ولم تفلح حتى الآن جهود التيار الليبرالي من الاقتصاديين الإيرانيين المحيطين بالرئيس روحاني، في إحداث اختراق في الهيكل الاقتصادي الوطني، يسمح بإعادة هيكلة الاقتصاد بعيدا عن التوجهات السياسية.