التخطيط .. وبرنامج التحول الوطني

يستهدف برنامج التحول الوطني إحداث تغيير في المسار والاستثمار فيه.. نحو اقتصاد إنتاجي، وخدمات ذكية.. أو بمعنى آخر مقاربة لصياغة نموذج اقتصادي يمتلك خصائص ديناميكية..
هذا يقتضي، ليس فقط إعادة الهيكلة، وإنما تفعيل كفاءة الإنفاق التي تتطلب مع الترشيد والمحاسبة والشفافية اعتماد معايير اقتصادية تقنية وصناعية، تضع في اعتبارها الاستفادة من الميزات النسبية لمناطق المملكة، بالتركيز على المصادر الطبيعية فيها والمجالات القادرة على توليد أقيام مضافة وتنافسية أيضا، تخولها الصمود في زحام صناعات وتقنيات عالمية سارت بعيداً في امتلاك الجودة والاستحواذ على الأسواق.
ولأن برنامج التحول عمل في صلب التنمية، فإن هذا يستدعي النظر إلى ما تم تحقيقه من برامج ومشاريع أنجزت على مدى تسع خطط خمسية، وتوشك الخطة العاشرة على الصدور. الأمر الذي يجعلنا نتساءل: هل كان بالإمكان إنجاز ما تم إنجازه دون وجود خطط.. وهل كان دور وزارة الاقتصاد والتخطيط في ذلك قيادياً أم كانت مقودة مستجيبة؟
للإجابة.. لا بد من الإشارة إلى الطريقة التي يتم بها إعداد الخطة.. وهي باختصار تقوم على أن الوزارة تستقبل على مراحل ما يسمى مشروع خطة.. لكل جهة من الجهات الحكومية، تتضمن الأهداف والسياسات والقضايا والبرامج والمشاريع، مسترشدة مسبقاً بالأسس الاستراتيجية والأهداف العامة للخطة، التي تقر من قبل مجلس الوزراء وتصدر قبل الشروع في إعداد الخطة الخمسية، ثم يتم إعداد الخطة النهائية لكل جهة بالتوافق بين فريق عمل من الوزارة وفريق عمل من الجهة الحكومية.
لكن.. هل كان الحال سيتغير لو أن الجهات بنفسها أقرت برامجها ومشاريعها مباشرة مع وزارة المالية، كما كان الوضع قبل وجود وزارة الاقتصاد والتخطيط؟.. لو قلنا: بنعم فسيعني هذا أن وزارة الاقتصاد والتخطيط مقودة باحتياج الجهات، وأن دورها لا يتعدى وضع الشكل الفني للخطة. وأن لسان حال الجهات يكاد يقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا.
وإذا نحن تجاوزنا ذلك إلى ما للوزارة من مهام أخرى تتعلق بالدراسات والتقارير الاقتصادية وتقويم الأداء والمتابعة.. فالواقع أن الوزارة طوال تاريخها لم تصدر عنها دراسات مرجعية لا اقتصادية ولا اجتماعية، وظل الدارسون والباحثون، يشكون من غيابها، كما لم تصدر عنها تقارير اقتصادية أو تقارير في التنمية البشرية، إلا بما لا يكاد يذكر.
إن وزارة الاقتصاد والتخطيط تشرف على المصلحة العامة للإحصاء والمعلومات، فضلا عن أنها هي بذاتها تتوافر على مجمل البيانات ذات العلاقة بالتنمية في القطاعات الخدمية والإنتاجية والقطاع الخاص كان يفترض أن يجعلها هذا الامتياز "بنك أفكار".. وكان حرياً بها أن تجند لصالحها القوى الأكاديمية الوطنية المتخصصة، وهي لو كانت قد فعلت ذلك لكان لدينا اليوم ذخيرة كبيرة من الخبرات التي يمكن التعويل عليها، ليس في تحديد الأهداف ومعالجة القضايا فحسب، وإنما في الاستشراف.. جوهر دور التخطيط ومبرر الأخذ به.
الوزارة.. مثلا.. لم تستطع حل مشكلة القوى البشرية ووقعت في مصيدة مقولتها العتيدة عن مواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات التنمية، فلو كانت مستشرفة لجعلت من المتطلبات بالأساس متطلبات مستقبلية يصاغ التعليم لكي يصعد لتحقيقها.. أما هدف تنويع القاعدة الاقتصادية فلولا الصناعات التحويلية لما كان لدينا ما يمكن الإشارة إليه في هذا الجانب. وفيما يتعلق باقتصاد المعرفة فقول لا يستقيم مع غياب حتى الصناعات التقليدية.. أما القضايا فقد تواتر حضورها في الخطط وبقيت حيث هي تقريبا بعروض نظرية وحلول لم تجد سبيلها.
ورغم أن الوزارة عقدت ندوة كبرى قبل نحو 17 عاما عن الرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي، وكان من المفترض أن تتوج بصدور خطة بعيدة المدى لتحقيق هذه الرؤية.. فإن تحولات جديدة تتابعت على تنميتنا لم تكن في حسبان هذه الخطة البعيدة المدى، إذا استثنينا إشارات عابرة في الخطتين الثامنة والتاسعة هي من فضل القول.
هذا المنظور الفني التنسيقي للتخطيط لا يصادر أهمية دور التخطيط نفسه، لكنه يضع أمامنا مسار هذه التجربة لتجاوز الإخفاقات في معالجة القضايا الحيوية وعدم القدرة على الاستشراف إلى ما يحقق تحولا عميقا ونوعيا في تنميتنا على أسس إنتاجية.. وهذا هو ما يستهدف الاتجاه إليه برنامج التحول الوطني، خصوصاً في ظل وجود مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، لأخذ الاقتصاد الوطني من حالته الخدمية والاستهلاكية إلى دروب الصناعة والتقنية والخدمات الذكية.
فقد تحقق الكثير مما هو مثار للفخر، غير أن ضمانة استدامة هذا الفخر تعتمد على الخلاص من تلك القضايا العالقة بحلول حاسمة.. بجانب تكريس زخم الروح العلمية العملية لإدارة دفة التنمية على أساسهما لدفع كل منجز سابق للترقي النوعي الحديث، ليواكب ما هو مأمول من منجزات جديدة رائدة.
وإنه لتحد لا يستدعي فقط توطين التقنية والصناعة، بل استنباتهما وضرورة ترسيخ المشاريع في علاقة عضوية بقوى وطنية منذ البداية.. إذ لا مناص من ذلك. لأنه هو الضمانة لتدافع هذا التحول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي