إيران .. والبابوية الجديدة

تستنسخ ولاية الفقيه في إيران ثلاثة نماذج في إدارتها للسياسة الخارجية.. الأول من القرون الوسطى حين كان بابا الفاتيكان في روما يتحكم في أمراء وملوك أوروبا ويخضعهم لسلطته.. وكانت تحدث بين حين وآخر صراعات بينه وبينهم إلى أن نجحت الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر في إخضاع الكنيسة الإنجليكية لسلطة الملك، ثم كانت الضربة القاضية مع الثورة الفرنسية 1789 التي تداعت بعدها السلطة البابوية في كل أنحاء أوروبا.
أما النموذج الثاني: فهو النسخة السوفياتية حيث كانت موسكو حريصة على إنشاء ودعم وجود أحزاب شيوعية في أنحاء العالم ومنها عالمنا العربي تدور في فلكها وتتبنى مواقفها، حتى أن زعيم الحزب الشيوعي السوري خالد بكداش طار لاجئا إلى موسكو محتجا حال إعلان الوحدة بين سورية ومصر.. ومثله فعل شيوعيون آخرون لمجرد خلاف مع هذا النظام أو ذاك.. وهذا النموذج تم استنساخه في إيران في زرع أحزاب وخلايا شيعية تابعة لها في البلدان العربية وفي العالم الإسلامي وإفريقيا وبعض دول العالم.
استنسخت إيران كذلك نموذجها الثالث "المرشد الأعلى" من لقب "المرشد" عند جماعة الإخوان المسلمين، بل إن علي خامنئي هو من ترجم أعمال سيد قطب للفارسية، ومثلما كان الإخوان قد استنسخوا "التنظيم الدولي لجماعة الإخوان" من الأممية الشيوعية، احتذت بهم كذلك عقلية ولاية الفقيه.. ولذلك لا نجد تفاوتا ولا تباينا بين موقف ولاية الفقيه الإيرانية ومرشدها وبين جماعة الإخوان المسلمين ومرشدهم، وإنما قدر من التماهي والانسجام وترحيل كل طرف حساباته للمستقبل!
إذًا.. هذه البابوية الجديدة والسوفياتية الجديدة والمرشدية الجديدة هي ما يشكل أسس العقل الحاكم في إيران منذ اندلاع ثورة الخميني.. لكنها أسس تتستر على جوهر عقدة إيران مع التاريخ بنظرتها إلى نفسها قومية فارسية، كان لها حضورها على مسرح الأحداث كغيرها من أقوام ما قبل التاريخ قبل ظهور الدولة الحديثة وقبل إدماجها في دولة الخلافة في بواكير الفتح الإسلامي.
جرت مياه كثيرة في نهر التاريخ وتغيرت زعامات الدولة الإسلامية إلى أن جاء المغول والعثمانيون والمستعمر الغربي.. وبعد الاستقلال وقبله أيضا كان التجار والسياح وطلاب العلم رائحين غادين بين بلدان العرب وإيران.. حتى جاءت البابوية الجديدة مع الخميني في عقلها الهجين المحكوم بنعرة صفوية أو بقومية فارسية تحت شعار شيعي جعفري تختصره ولاية الفقيه.. أو شبيه ظل الله في الأرض كما كان زعم بابوية القرون الوسطي.
مضى نحو 36 عاما كانت فيها إيران محكومة بتناقضات تلك النماذج البائدة إلى جانب تململ قوميات إيرانية أخرى هي بذاتها لها نفس المكانة والكثافة في الحضور التاريخي لكن هذه العقلية الهجينة عملت على تغييب ذلك بالقمع داخليا بتكريس تصدير أزمة هذا العقل الهجين للخارج وتوجيه الثروة لتحشيد العملاء وأجهزة الأمن للتدخل في شؤون جيرانها العرب، فيما لم يذكر أن بلدا عربيا -خصوصا بلدان الخليج- سعى لأي نوع من التدخل في شؤونها، وإنما تميزوا بطول النفس معها وهي التي اعتدت واحتلت أراضيهم وزرعت أحزانا وخلايا ودفعت بإرهابيين ليخربوا ويفجروا.. ولم ترعوِ حتى عن التخريب والعنف في مواسم الحج ولا السطو والاعتداء في وضح النهار على المقار الدولية مثل السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد كما فعلت الشيء نفسه مع سفارات دول أخرى.
وإذا كان الحوثيون في اليمن وحزب الله في لبنان وبشار في سورية والمالكي وغيره في العراق شواهد دالة على هوس البابوية الجديدة في إيران وأن ذلك كله تدخل سافر ضد كل القوانين والمواثيق الدولية.. فإن إيران لا تستطيع بالمقابل أن تضرب مثلا واحدا على تعدي العرب على سياستها، إلا بالهرولة إلى المغالطات التاريخية، وهي مغالطات لو ذهبت دول العالم في اتجاهها لما بقي شبر من الأرض إلا وبات موقع خلاف وصراع.. ذلك أن العالم اليوم لم يعد بوسعه سوى احترام سيادات الدول بحكم العقل والمنطق والواقع الفاقع!
فهل تقوى بابوية إيران الجديدة وسوفياتيتها الجديدة ومرشديتها الجديدة على معاندة مسار التاريخ باستنساخ نماذج بائدة كان مصيرها أسود؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي