إيران .. وعقدة اسبرطة
دولة إيران مثال صارخ على الهوس المفرط بالاستعراض بعتادها العسكري وصناعاتها الحربية.. مع أنها لم تكن يوما مهددة بخطر من جيرانها ولا غيرهم من دول العالم، بل هي من بادرت إلى التحدي مع مجيء الخميني 1979 بالإعلان عن عزمها على تصدير الثورة.. فلماذا تفعل إيران ذلك؟!
هنالك جرح تاريخي غائر في اللاوعي الفارسي، يمكن أن نسميه "عقدة اسبرطة"، عمره نحو 2500 عام.. حينها كانت بلاد اليونان محكومة بنظام دولة المدينة.. حيث اشتهرت مدينة أثينا بالفكر والفلسفة والعلم والفن والصناعة والتجارة واشتهرت مدينة اسبرطة بالنزعة العسكرية.
حينذاك ـــ أواخر القرن الخامس قبل الميلاد ـــ شن الفرس حملة غزو على بلاد الإغريق فقادت اسبرطة اليونان للتصدي لهم بشكيمة ملكها ليونارديس وأنزلت بالفرس هزيمة ماحقة "480 ق. م" في معارك عدة أشهرها "بلاتيا" و"سيلاميس" واندحر الفرس بعدها فارين بإمبراطورهم (زركسير) الذي كان قد ادعى الألوهية لنفسه.
هذه العقدة الاسبرطية تغلغلت في اللاوعي الفارسي وظلت تنخر فيه، إلى أعمق مما قاله ابن خلدون عن (ولع المغلوب بتقليد الغالب) فبلغت حد الهوس المطلق بالنزعة العسكرية في ذهنية حكومة الولي الفقيه لاستعادة تلك الألوهية المزعومة لذلك الإمبراطور بعصمة الولي الفقيه.. على أن تستثمر هذه الاستفادة ضد جيرانها العرب الذين تستجمع فيهم ضغينة زوال مملكة كسرى أنوشروان.
بالمقابل كانت هذه النزعة العسكرية أيضا هوس، الزعيم الثاني للاتحاد السوفياتي جوزيف ستالين.. ومن أجلها ضرب ما عرف بالستار الحديدي فأزهق خلفه أرواح الملايين وقام بتصفية حتى رفاقه وكمم الأفواه وملأ معسكرات الاعتقال الرهيبة التي فضح أهوالها الروائي الروسي العظيم ألكسندر سولجنستن في روايته الشهيرة "أرخبيل الجولاج".. إلا أن إيران لم تر في هذا النموذج السوفياتي سوى ما اعتبرته تصويبا لنداء عقدة اسبرطة فيها فأمعنت بالسعي إلى تكديس القوة العسكرية واختصار الدولة والشعب والتقدم بها!
وإذا كانت النزعة الاسبرطية العسكرية قد أثرت عميقا في الإسكندر المقدوني فلا غرابة في ذلك لأنه ابن أعراف ذلك الزمن فضلا عن أنه ابن الثقافة اليونانية وقد دفعت به إلى غزو العالم لوضعه تحت سلطته ــــ من اليونان إلى الهند ـــ ومع ذلك فإن الأمر انتهى به إلى الزوال.
كذلك فعلت هذه النزعة، بالاتحاد السوفياتي.. فقد دفعت به إلى احتياجات غاشمة لقهر دول مثل: بولندا والمجر وتشيكوسلوفكيا وأفغانستان. ثم دق الاجتياح الأخير لدول البلطيق لمنعها من الاستقلال المسمار الأخير في نعشه!!
رغم ذلك.. أشاحت حكومة الولي الفقيه عن هذه وتلك وما زالت تصر على تكريس ثروتها لتكوين المزيد من القوة العسكرية متحدية العالم بمفاعلاتها النووية وصواريخها البالستية وترسانة جهنمية في مؤسسات الحرس الثوري والجيش وأجهزتها الأمنية، بينما ترزح قومياتها المختلفة تحت كوابيس الرعب والبؤس.. فقد غررت بها العقدة الاسبرطية إلى حد جعلها لا ترى كيف أن دولة كانت عظمى لـ (70) عاما لم تنجها هذه القوة من التهاوي في أيام!
مشكلة إيران.. أنها مأزومة بأيديولوجيا عمياء، من عقل هجين، بين شوفينية فارسية ومذهبية ولاية الفقيه الطائفية المتزمتة.. وبالضرورة فإن الأيديولوجيا العمياء تقود إلى الطلاق مع الواقع لتنوب الخرافة عنه.. فيصدق الموهوم بها ما يتوهمه.. فلا يرى إلا من خلالها.
هكذا كان الحال مع روسيا السوفيتية وألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، لكن التاريخ لم يمهلها وسرعان ما لفظها بمهانة.. فالعضلات لا تنوب عن العقل والروح.. والاستبداد لا يطفئ الشمس.. وحتما لن تكون ولاية الفقيه استثناء.. بل هي بسلوكها هذا ومراوغاتها واستخفافها بالسلام العالمي وغطرستها بالتطرف والإرهاب تستجمع نذر الكارثة!