«ابنِ يا باني».. أهزوجة من الزمن الجميل تحيا في قرية الباحة

«ابنِ يا باني».. أهزوجة من الزمن الجميل تحيا في قرية الباحة

تمثل جملة "ابنِ يا باني" التي كان يرددها إنسان الباحة قديما وهو يقوم بمهمة بناء منزل من الحجر والخشب تعيد أعمال البناء وطقوسه؛ تلك اللحظة الهاربة التي أصبحت غائرة في أقاصي الزمن بعد أن أقصتها التغيرات المعمارية الحديثة التي اتخذت نظما معمارية وطرازا حديثا.
ويواصل البناؤون في قرية الباحة التراثية في الجنادرية بشكل يومي عرض هذه الحرفة أمام الزوار، حيث تشكل هذه الفعالية إطلالة حقيقية على ملحمة إنسانية حقيقية عاشها الناس في زمن الماضي، حين يتحول البناء مهرجانا للتعاون والتآزر ومد يد العون عند البدء في بناء منزل أو غير ذلك.
وتتجسد الروح الجماعية في مشهد البناء عندما يجتمع الأهالي عند صاحب البناء، وكما جرت عليه العادة أن يفصح صاحب البناء عن رغبته في ذلك للمعارف والأقارب والأهل ويوجه لهم الدعوة لمعاونته في إقامة بناء منزله أو جدار مزرعته فيما يسمى (بالسرعة).
وجرت العادة أن يفصح صاحب الدعوة عن نيته بالبناء عبر خطيب المسجد أو من خلاله شخصيا ويحدد موعدا لذلك، فيهب الناس نحوه ليشكلون معا فرق عمل جماعية تتوزع المهام فيما بينها، حيث تقوم مجموعة منهم بقض أحد الجبال المحيطة بالفؤوس والمعاتل.
وتتولى مجموعة أخرى نقل الأحجار عبر الدواب إلى موقع البناء وتتولى مجموعة رابعة تكسير الصخور الكبيرة إلى حصى أصغر بحسب رغبة الباني ومتطلبات البناء، فالعتبة وهي حجر كبير يوضع في مدخل المنزل، وكذلك "الجباهة" تكون بحجم معين (كبير نسبيا) ومن حجر خاص يعرف بالصوان حتى تتحمل الضغط العالي، بينما بقية أجزاء الجدار تكون بحجم أصغر، ويقوم "الملقّف" - بتشديد القاف المهملة - وهو بمثابة المعاون للبناء "بإيصال الحصى إلى الباني الذي يقف فوق الجدار مع ملاحظة أنه قد يتحول الملقف بناء مع مرور الزمن.
وتبرز عبقرية إنسان الباحة في مجال المعمار والبناء من خلال قدرته على تطويع الطبيعة ونجاحه في استغلال مواردها البسيطة فهو يستطيع بناء منزل متكامل باستخدام مادتين فقط هما الحجر والخشب، أما فيما يتعلق بتجميل البناء فقد تفتقت عبقريته واهتدى إلى تزيين المنزل مستغلا تباين ألوان الأحجار المحيطة به ونجح في جعل المزاوجة بين الأبيض والأسود لوحة جمالية يزين بها جدران منزله، عبر استغلال حجر "المرو" ذي اللون الأبيض لتزيين الجدار وتجميله، وقد برع إنسان الباحة في استغلال الأشكال الهندسية كالمثلث والمربع فصنع منها مع ألوان الحجر لوحة معمارية مبسطة لا ينقصها الجمال.
ويمثل مشهد الختام في عملية البناء لحظة كرنفالية مبهجة، حيث جرت العادة أن يرقص الناس رقصا جماعيا فوق سطح المنزل فور الانتهاء من عملية البناء مرددين الأغاني والأهازيج ابتهاجا وفرحا بما أنجزوه.
يذكر أن أبناء الباحة نجحوا في بناء منازل تحقق معادلة مناخية لا تتحقق إلا في البيوت الأثرية القديمة، وهو الأمر الذي جعله يعكس المناخ الخارجي، حيث إن أحجاره التي يبنى منها وطريقة تسقيفه وخلبه تساعد جميعها في حياة الإنسان قديما نظرا لعدم توافر التقنيات الحديثة التي تعمل على التبريد والتدفئة الآمنة والعملية.
ونجحت قرية الباحة التراثية في استعادة هذا الطقس التراثي البهيج بكل تجلياته، من خلال ركن البناء الذي يستوقف الزوار وهم يشاهدون أعمال البناء القديم بالحجر حية أمامهم، وتستوقف أهازيج البناء التي يطلقها محمد سالم عبد الله ذو الـ(60 عاما) وأصوات طرق الحجر بالفأس وشكل الجدار جحافل الزوار من مختلف الفئات العمرية أمام هذا الركن مبهورين.

الأكثر قراءة