ولنا في لاس فيجاس عبرة
كيف يمكن لمدينة صحراوية أن تقلل من استهلاك الفرد فيها من 348 جالونا – في عام 1989 – إلى 240 جالونا في عام 2009؟ بل كيف لهذه المدينة أن تحافظ على مجمل استهلاكها الكلي فيكون ما تستخدمه من ماء في عام 2009 مساويا لما تم استخدامه في عام 1999؟ الأمر المثير للإعجاب فعلا أن هذه المدينة حافظت على الكمية نفسها من الماء على الرغم من تضاعف عدد السكان مرتين خلال الفترة نفسها!
رأينا فيما سبق صعوبة الوضع المائي في المملكة العربية السعودية وشدة التحديات الحالية والمستقبلية. واستعرضنا في المقال السابق قصة سنغافورة التي كانت تعاني صعوبات مائية حولتها إلى نجاح منقطع النظير. اليوم نتحول إلى الغرب، إلى مدينة لاس فيجاس الأمريكية تحديدا لنتعلم كيف نجحوا هناك في التغلب على الصعوبات المائية الجمة.
تقع مدينة لاس فيجاس في صحراء ولاية نيفادا فهي ذات جو صحراوي جاف وحار، وفي الواقع لاس فيجاس هي أشد المدن – الكبيرة - الأمريكية جفافا ودون منافس حقيقي، وفي تناقض عجيب مع اسمها ذي الجذور الإسبانية الذي يعني المروج الخضراء – ربما تفاؤلا كما تسمي العرب الصحراء القاحلة بالمفازة أو الملدوغ بالسليم. يبلغ معدل هطول الأمطار 115 مم سنويا، ومعدل الأيام الماطرة أقل من 20 يوما في السنة. إضافة إلى ذلك فالمدينة مكتظة بالسكان لكن بتوزيع غريب جدا، فسكان المدينة لا يمثلون سوى 5 في المائة فقط (ما يقدر بمليوني قاطن) من مجمل السكان، في حين يمثل الزائرون 95 في المائة أو 36 مليون نسمة! ومما يعقد من الأمور لهذه المدينة الجافة المكتظة بالسكان عدم وجود مصادر مائية كافية للجميع. فلاس فيجاس ليس لديها فعليا إلا مصدر وحيد للماء وهي بحيرة ميد الصناعية Lake Mead التي احتجزت مياهها خلف سد هوفر وتكونت في عام 1930. هذه البحيرة الصناعية الأكبر في العالم، الواقعة على بعد 40 كم جنوب المدينة تمدها بـ 90 في المائة من احتياجاتها اليومية من الماء. سعة البحيرة الصناعية هائلة وتتجاوز 32 كيلو مترا مكعبا، لكن 1 في المائة فقط من مياهها مخصص لمدينة لاس فيجاس في حين تذهب البقية إلى الولايات المجاورة مثل كاليفورنيا وأريزونا. مع كل هذه التحديات قد يعتقد البعض أن أهالي المدينة سوف يقتصدون في استخدام الماء. في الواقع أن الوضع كان العكس تماما. كان الهدر المائي في لاس فيجاس من ضمن الأعلى والأسوأ في الولايات المتحدة.
وهنا تظهر باتريشيا ميلروي Patricia Mulroy التي تكاد تكون المرأة الأبرز في مجال إدارة المياه في أمريكا وربما في العالم. عند تسلمها دفة إدارة مياه المدينة كانت الاستراتيجية السائدة في ذلك الوقت هي إدارة العرض: أي عند زيادة الطلب من المستهلكين فعلى الإدارة وبكل بساطة تلبية هذه الزيادة بضخ كميات أكبر من المياه. لم يكن من المنطق أو حتى من الممكن الاستمرار بهذه الاستراتيجية غير المسؤولة. رأت باتريشيا مبكرا ضرورة التغيير الجذري والسريع خاصة مع انخفاض مخزون بحيرة ميد إلى 50 في المائة من طاقتها بسبب الجفاف.
في البداية نظرت باتريشيا إلى أين يذهب هذا الماء فرأت أن 50 في المائة يستخدم سكنيا فقررت البدء هناك. لم يكن هناك قلق من الماء المستخدم داخل المنازل لأنه يعاد تجميعه ومعالجته ثم إعادته إلى البحيرة. القلق كان من الماء المستخدم خارج المنزل في غسيل السيارات وري الحدائق المنزلية الذي كان يمثل 70 في المائة من الماء السكني! بداية تم رفع تعرفة الماء للاستخدامات العالية، ثم تم تشجيع السكان على تغيير المزروعات في حدائقهم إلى مزروعات مقاومة للجفاف عبر برنامج لاستبدال 140 مليون قدم مكعبة بمنحهم في المقابل 155 مليون دولار وهو ما أسهم في توفير 7.7 مليار جالون من الماء سنويا أي ما يعادل 8 في المائة من استهلاك المدينة، فالماء أهم من المال. تم أيضا حصر ري المزروعات بيوم واحد فقط في الشتاء أما في الصيف فسمح به يوميا لكن في الليل أو الصباح الباكر للتقليل من التبخر. لاحقا تم استصدار قرار بمنع أي حديقة أمامية في أي منزل جديد في المدينة، فالماء أهم من الكماليات.
التفتت باتريشيا ميلروي بعدها إلى القطاع التجاري والصناعي الذي كان يستحوذ على الـ 50 في المائة الباقية. تم إيقاف جميع النوافير في المنشآت الحكومية والمؤسسات التجارية، فالماء أهم من الجماليات. تم أيضا منع أي منشأة جديدة – حكومية كانت أم تجارية - من اتخاذ أي حدائق أو مسطحات خضراء. الاستثناء الوحيد كان الفنادق فهي مصدر الدخل الأهم في فيجاس. تم السماح لهم باستخدام النوافير والمسطحات المائية لكن بشرط أن تكون كلها من مياه الصرف المعالجة. وهكذا فإن نوافير فندق البلاجيو الراقصة والشهيرة عالميا مثلا ما هي إلا مياه صرف نزلاء الفندق المعالجة. كذلك تم تشجيع المنشآت التجارية – كمغاسل الملابس- على استخدام مياه صرف معالجة وذلك بتخفيض تعرفة المياه المفروضة عليهم.
وهكذا تبدو لاس فيجاس كأي مدينة سعودية (أو عربية) كبيرة: جو حار، معدل هطول أمطار شحيح، تعداد سكاني مرتفع، ومصادر مائية قليلة وناضبة، مع استهلاك مائي جائر وغير مسؤول. وهذا ما يجعل قصة هذه المدينة جديرة بالقراءة والتأمل لكل المختصين في مجال المياه محليا. تسلمت باتريشيا ميلروي إدارة المياه في لاس فيجاس وهي في وضع مأساوي لكنها حولتها بقرارات صارمة واستراتيجية إلى قصة نجاح. تمكنت من كبح جماح الهدر المائي والحفاظ على كمية الماء المستخدم على الرغم من تضاعف الطلب. ليتنا نتخذ من باتريشيا ميلروي ولاس فيجاس قدوة.