الاقتصاد العالمي .. الآليات مترابطة لا السلوكيات
أيا كانت التوقعات والرؤى الراهنة للاقتصاد العالمي، فإن هذا الأخير يعيش اضطرابا حقيقيا، دفع البعض إلى الاعتقاد أنه في مرحلة ليست بعيدة عن أزمة عالمية. حتى أولئك الذين لا يتفقون مع هذا التصور، فإنهم يعترفون بأن الاقتصاد العالمي يمر بفترة حساسة، ليست فقط من ناحية ضعف النمو، والاضطرابات السياسية في غير منطقة في العالم، وتردي أسعار النفط، وتنازع (وليس حرب) العملات، بل أيضا من جهة غياب التنسيق العالمي الحقيقي، الذي فرض نفسه في الواقع على الساحة، نتيجة مخرجات الأزمة الاقتصادية العالمية التي اندلعت في عام 2008. فلا عجب، عندما تكرر مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد، التركيز على هذه النقطة في كل المناسبات، وهي من الشخصيات الأكثر صراحة التي تسلمت هذا المنصب.
قد لا تكون هناك أزمة اقتصادية عالمية كبرى في الوقت الراهن، ولكن هناك سلسلة من الأزمات المتوسطة. وإذا ما استفحلت، فإن توقعات المتشائمين قد تصبح حقيقة ليس بعد سنوات، بل في غضون الأشهر المقبلة. أمراض الأسواق الناشئة بدأت في الظهور بصور مختلفة، وهجرة رؤوس الأموال من الصين وبعض البلدان الناشئة أصبحت في مجال الخطر، وضربات تصحيح مسار السوق النفطية باتت على الساحة منذ أكثر من عام، والديون الأوروبية لم تدخل مرحلة الأمان، وإن وصلت إلى نقطة الهدوء، وتأثير إمكانية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بدأ يسيطر على أوروبا ومناطق أخرى من العالم. وهناك أيضا التوترات في آسيا (بحر الصين وكوريا الشمالية)، إلى جانب التوتر المستمر في الشرق الأوسط، الذي بلغ حدا دفع رئيس وزراء روسيا ميدفيديف إلى الحديث عن حرب عالمية ثالثة!
هناك أيضا توجهات «الاحتياطي الفيدرالي» الأمريكي نحو رفع جديد للفائدة التي تؤثر بصورة سلبية مباشرة في بلدان كثيرة في العالم. وهذه وحدها مصيبة حقيقية مستمرة، في ظل وجود إدارة أمريكية قررت الانكفاء على نفسها، بصرف النظر عن المسؤوليات التي تفرضها مكانة الدولة الكبرى. نحن في عالم قد لا يكون على حافة الهاوية الاقتصادية، ولكنه بلا شك يقترب منها، خصوصا مع غياب التنسيق العالمي لمواجهة التداعيات. لقد بدا العالم هشا بصورة مرعبة، عندما هددت موجات من اللاجئين والمهاجرين تجمعا ضخما مثل الاتحاد الأوروبي، كان (ولا يزال) مثالا يحتذى لكل التجمعات الإقليمية الهادفة إلى النجاح وتحقيق الأهداف! وهذا يعني أن التعاون في حل المشكلات العالمية ليس حاضرا كما يجب.
بات الجميع يتحدثون عن نمو اقتصادي عالمي متواضع، بل إن الاحتمالات الأكبر، أن يتراجع هذا النمو عما كان عليه في السنوات القليلة الماضية. دون أن ننسى أيضا أن الصين نفسها التي تعتبر مثالا لارتفاع النمو، تواجه حقيقة خفض التوقعات بهذا الخصوص، فضلا عن انكماش بعض الاقتصادات الأخرى، ولا سيما روسيا. ولم توفر تدخلات البنوك المركزية في البلدان الغربية في الواقع قيمة كبرى على صعيد دفع النمو في بلدانها. والواقعيون الاقتصاديون يتحدثون منذ فترة عن هذه السياسة العقيمة. أما المتفائلون فهم يقرؤون نتائجها يوميا. ومما لا شك فيه، أن بعض تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية لا تزال تفرض معاييرها على الساحة، وما كانت لتبقى طوال هذه المدة، لو لا التطورات المقلقة السياسية والاقتصادية والتنسيقية على هذه الساحة.
نحن أمام حقائق حزينة للاقتصاد العالمي، على الرغم من الإنجازات التي تحققت في السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك تلك المرتبطة بالمشاريع التنموية الخاصة بالأمم المتحدة، إضافة طبعا إلى النجاحات التي حققتها بعض البلدان حتى في ظل الأزمات التي تعصف بالعالم. ويعد البلد الناجح حاليا، ذاك الذي يستطيع المضي في النمو رغم المشكلات الراهنة. بل هناك من يعد البلد الناجح الذي يتمكن من تقليل انعكاسات هذه المشكلات عليه، بصرف النظر عن النمو وما يرتبط به. وفي كل الأحوال، لا يمكن فصل الأزمات المشار إليها عن أي حراك اقتصادي، ليس فقط في البلدان المعنية بهذه الأزمات مباشرة، بل حتى تلك البعيدة عنها. إنه عالم مترابط من حيث الآليات، وليس كذلك من جهة السلوكيات.
ولا شك في أن السعودية من تلك البلدان التي تبحر بأمان في محيط متلاطم الأمواج. فعلى الرغم من سياساتها الصارمة بتصحيح السوق النفطية بصرف النظر عن أي تكاليف، تمكنت من تحقيق مستويات نمو جيدة، فضلا عن أنها حافظت على مكانتها من حيث الاحتياطيات المالية، إلى جانب طبعا الحفاظ على وتيرة تنفيذ المشاريع التنموية والاستراتيجية المختلفة. وهذا وحده يضيف نقاطا كبرى لمصلحة المملكة، التي لم يجبرها انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية على تغيير سياساتها الاقتصادية. فهي تعمل وفق رؤى استراتيجية وليست آنية، ومستدامة وليست على مبدأ الطفرات. لماذا؟ لأنها تواصل بناء اقتصاد قائم لا يتأثر بالأزمات كثيرا ولا يشعر بمخاطر الاستحقاقات. هناك تكاليف لمثل هذه السياسات، والمملكة قادرة على مواجهتها حتى بعد وصول سعر برميل النفط إلى ما دون 30 دولارا.