البنوك المركزية والأزمات.. من يقود من؟
هشام محمود من لندن
احتلت البنوك المركزية دائما موقعا متقدما في صياغة القرار الاقتصادي، سواء في أوقات الرخاء أو الشدة. إلا أن هذا المركز المميز لها، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان، انتقل منذ الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، من مركز متقدم إلى المركز الرئيس لصياغة القرار المالي العالمي، وانتقلت البنوك المركزية الثلاثة الكبرى في العالم ( الفيدرالي الأمريكي – المركزي الأوروبي- المصرف المركزي الياباني)، من مؤسسات مهمة ضمن مجموعة مؤسسات اقتصادية أخرى متقاربة القوة متشابهة التأثير، تشارك جميعها في صياغة السياسة الاقتصادية للدولة، إلى المؤسسة الرئيسة المسؤولة تقريبا بمفردها عن صياغة الاستراتيجيات الاقتصادية، وطرح الآليات لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية .
وبات محافظو البنوك المركزية الثلاثة النجوم الرئيسين، والمرجع شبه الوحيد عند الحديث عن الوضع الاقتصادي العالمي، أو طرح التوقعات المالية الكلية المستقبلية، ومناقشة سبل الخروج من المأزق الاقتصادي الراهن.
وأصبحت قراراتهم سواء تعلق الأمر بتغيير سعر الفائدة، أو إعادة توجيه سياسات التيسير الكمي، أو غيرها من السياسات النقدية، تحظى باهتمام إعلامي فاق بشكل ملحوظ التركيز المماثل الذي يلقاه القادة والزعماء في الولايات المتحدة أو بلدان الاتحاد الأوروبي أو اليابان عند الحديث عن الاستراتيجية الاقتصادية لبلدانهم، لكن البنوك المركزية الثلاثة لا تبدو في حقيقتها عالمية التوجه بشكل مطلق في نظر البعض.
الدكتور توماس جريجوري أستاذ مادة البنوك والنقود في جامعة كوفنتري يعلق لـ”الاقتصادية” قائلا “ درجة تأثير البنوك الثلاثة في الاقتصاد العالمي وتوجيهه لا تبدو متساوية، وإذ جاز التعبير فإن الفيدرالي الأمريكي يؤدي دور المصرف المركزي العالمي، فقراراته بشأن أسعار الفائدة أو مبادراته بشأن التيسير الكمي تمثل الاستراتيجية العالمية في هذا السياق، وتحدد الخطوط العريضة لطبيعة التوجه الذي ستسير عليه أغلب دول العالم، وهذا المركز المميز منبعه العملة الأمريكية، وتأثيرها في التجارة الدولية والاقتصاد العالمي، إذ يعتبر الدولار العملة الأولى دوليا بلا منازع، وهذا الوضع يمنح الفيدرالي الأمريكي أن يكون المتحكم الأساسي في الجزء الأكبر من الاحتياطات المالية العالمية، وهذا ما يفتقده كل من المصرف الأوروبي والمركزي الياباني، اللذين يمكن اعتبارهما بنوكا مركزية وطنية ذات طابع إقليمي، إذ إن تأثيرهما الإقليمي أعلى من تأثيرهما الدولي”.
لكن تباين قدرات البنوك الثلاثة دوليا، لا يحول دون القول إن تصاعد دورها في صياغة الاستراتيجية الاقتصادية، سواء في بلدانها أو ضمن نطاقاتها الإقليمية أو عبر تأثيرها الدولي، ارتبط بقناعة عالمية مهيمنة جوهرها أن السياسات النقدية التي تطرحها البنوك الثلاثة تعتبر “ المنقذ الوحيد” من الأزمة الاقتصادية العالمية حتى دون أن تشعر.
فخلال السنوات الثماني والنصف الماضية (الأزمة المالية العالمية اندلعت في أكتوبر عام 2008) لعبت السياسات النقدية عالميا سواء عبر التحكم في أسعار الفائدة، أو من خلال سياسية التيسير الكمي، الدور المحوري في التصدي للكساد العالمي، وتخفيف حدة الركود الاقتصادي ، الذي أصاب المجتمعات الرأسمالية عالية التطور بالأساس، ونعني هنا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان. لكن عملية الشفاء بدت بطيئة وضعيفة، وظلت معدلات التضخم دون المستوى المبتغى من الثلاثة الكبار، بل تجاوزت معدلات الديون مستوياتها قبل الأزمة. والمعضلة الكبرى أن هذا الشفاء غير المحسوس حدث في وقت تراوحت فيه معدلات الفائدة بين ما يقارب الصفر وأقل من الصفر، وهو ما يعرف بالفائدة السلبية، وبات الثلاثة الكبار أمام تحد جذري حول ما الذي يمكن القيام به بعد أن خفضت معدلات الفائدة دون الصفر؟
وعلى الرغم من أن الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة أخيرا بشكل طفيف، فإن نظيريه الياباني والأوروبي سارا في اتجاه معاكس بتبني معدلات فائدة سلبية، ورغم ذلك لم يحققا النمو المطلوب. وأصبح السؤال الباحث عن إجابة هل استنزفت السياسات النقدية قدرتها في الخروج من الأزمة الاقتصادية؟ أم أنه لا يزال لديها هامش مقبول من الحركة؟ وهل سياسة الفائدة السلبية يمكنها أن تقدم سياسة نقدية غير تقليدية تمثل محفزا للأسواق؟ أم أن هذا المفهوم غير المعتاد بأن يدفع المودعون أموالهم لدى البنوك المركزية فائدة على ما يودعونه من أموال، بدلا من أن يجنوا فائدة من ذلك ، سيؤدي إلى مزيد من التعقيد في المشهد الاقتصادي ؟ وهل حان الوقت للإعلان عن إفلاس السياسة النقدية برمتها، وافتقادها القدرة على رفع معدلات النمو، وضرورة زياد الاعتماد على آليات المالية العامة عبر خفض الضرائب وزيادة الإنفاق العام للنفاذ من الأزمة الاقتصادية ، وهو ما يعني عمليا سحب البساط من تحت أقدام البنوك المركزية، وإعادة ملف الأزمة وسبل الخروج منها إلى أصحابه الحقيقيين وهم الحكومات؟
بيرت هول عضو اللجنة المالية سابقا في بنك إنجلترا والاستشاري الحالي لمجموعة جولدن ساش البنكية الاستثمارية ، يعتبر أن الخناق يضيق تدريجيا على السياسة النقدية لإخراج العالم من أزمته الاقتصادية، لكن الآليات النقدية لم تستنزف بعد بالكامل وفقا لتعبيره.
ولـ”الاقتصادية” يعلق قائلا “ البنوك المركزية الكبرى إضافة إلى بنك إنجلترا طبقت جميع الوسائل النقدية التقليدية، وبعض تلك البنوك تبنى وسائل نقدية جذرية، مع هذا تظل حالة من عدم اليقين تهيمن على الاقتصاد الدولي، وإذا ما تدهورت الأوضاع بشكل حاد خلال النصف الثاني من العام الجاري أو العام المقبل ودخلنا في مرحلة جديدة من الركود الاقتصادي العنيف، فإن هذا سيكون بمثابة إعلان صريح بوفاة السياسة النقدية ، وفشلها كعلاج للخروج من الأزمة”.
ويضيف “ المشكلة أن سياسات المالية العامة غير فعالة أيضا، وهناك معارضة سياسية لها، إضافة إلى صعوبة تطبيقها لفترة طويلة في ظل ارتفاع معدلات الديون دوليا، ولهذا أعتقد أنه في المرحلة الراهنة يجب الاستمرار في مواصلة الأخذ بالآليات النقدية ، سواء عبر توسيع نطاق سياسة التيسير الكمي أو الدخول في نطاقات جديدة من السياسات النقدية الجذرية، باعتبارها طلقة الرصاص الأخيرة ضد الركود، لكن حيث إنها الطلقة الأخيرة فيجب تصويبها بدقة فائقة، والسؤال من السياسي الذي سيمتلك الشجاعة لأن يعطي الضوء الأخضر للبنوك باستخدام الطلقة الأخيرة وأن يبقى بلا ذخيرة” .
الدكتورة إيف ريتشارد أستاذة المالية العامة غير المتفرغة في جامعة ليفربول، والاستشارية في مجموعة Blackstoonلإدارة الأصول تعتقد أنه من الخطأ في المرحلة الحالية إيقاف العمل بالسياسات النقدية لعلاج الركود الاقتصادي في البلدان الرأسمالية عالية التطور، وتعتبر أن تلك السياسات تشبه جرعة طبية من المضادات الحيوية يجب أخذها إلى النهاية لمعرفة النتيجة، وإيقاف الجرعة قبل إكمالها سيمنح الفيروس مناعة ويجعل من الصعب علاجه بالوسائل العلاجية التقليدية .
وحول ماهية النطاقات الجديدة التي يمكن للسياسات النقدية أن تطرحها تعلق الدكتورة إيف قائلة “ أحد الحلول الجذرية تطبيق ما يعرف بنظرية “ إلقاء الأموال من الهليكوبتر “ وهي نظرية صاغها مؤسسة السياسات النقدية مالتون فريدمان ، وتعتمد على تحويل الأموال النقدية مباشرة من البنوك المركزية للمستهلكين، وهذا يمكن أن يكون أكثر فاعلية من سياسة التيسير الكمي في دعم الطلب، لأن ذلك الإجراء يتيح إقامة علاقة مباشرة بين البنوك المركزية والمستهلك، ويلغي الحلقة الوسيطة وأعني البنوك التجارية، التي تكون في حاجة دائمة إلى وقت لتحويل احتياطاتها إلى قروض، وأحيانا كثيرة لا يتحقق ذلك نتيجة الطلب الضعيف على القروض، وهو ما حدث في اليابان والاتحاد الأوروبي، ما دفع البنك المركزي الياباني ونظيره الأوروبي إلى تبني الفائدة السلبية”.
بالطبع الخطر الرئيس أن الإقدام على تلك الخطوة يعني زيادة طبع العملة، ومن ثم ارتفاع معدلات التضخم، ورغم أن المدافعين عن نظرية “ إلقاء الأموال من الهليكوبتر “ لا يجدون غضاضة في رفع معدل التضخم، طالما أن المشكلة الراهنة هي الركود، إلا أنه من الممكن أن تفقد البنوك المركزية سيطرتها على تلك المعدلات وتتجاوز المرغوب فيه، كما أن الإقدام على طبع مزيد من العملة، قد يأخذ الاقتصاد إلى وضع من الركود والتضخم في آن، ومن ثم تزداد المشكلة تعقيدا بدلا من حلها.
يعتقد بعض الخبراء المصرفيين أن الأزمة الاقتصادية العالمية وتواصلها لا يرتبط بفشل أو نجاح السياسات النقدية للبنوك المركزية، بقدر ارتباطه بمرحلة جديدة من تطور الاقتصاد العالمي. فالدورات التقليدية للرخاء والكساد في البلدان الرأسمالية عالية التطور تمر بمرحلة تغيير، تبعد بها عن الأنماط التقليدية التي عرفتها منذ الحرب العالمية الثانية.
فالمعروف أن أطول فترة رخاء اقتصادي أمريكي دامت عشر سنوات 1991-2001 ، بينما تمر الولايات المتحدة عادة بمرحلة ركود كل خمسة أعوام يستمر خلالها الركود بين ستة أشهر وعام ، بالطبع تلك الدورة تختلف من بلد إلى آخر ، لكنها الآن دخلت مرحلة جديدة يصفها الدكتور هنري رايس نائب رئيس المجموعة الاستشارية للجنة المالية لبنك إنجلترا بالركود الدائم .
ولـ”الاقتصادية” يعلق قائلا “ قد يكون الاسم مخيفا بعض الشيء، لكن هناك تغييرات عنيفة في الهيكل الاقتصادي الدولي خلال العقدين الماضيين، والمرجح ألا يدخل الركود الذي تعاني منه اقتصادات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، ضمن دورات الركود والرخاء التقليدية، بمعنى أنه ركود يليه رخاء ثم ركود ثم رخاء وهلم جر، وإنما سنشهد ركودا يدخل النمو ضمنه ، ولكن بمعدلات ضعيفة ، ومن ثم لا يمكن وصفه بالركود المطلق كما أنه بالطبع لا يعد نموا حقيقيا”.
ولكن هل تنجح السياسات النقدية كوسيلة للعلاج؟ يشك الدكتور هنري في أن تمثل علاجا حقيقيا، وإنما سيتطلب الأمر إحداث هزة في الهيكل الاقتصادي الدولي برمته للخروج من الركود الاقتصادي، وفي نظره فإن المجتمع الدولي غير مهيأ لمثل هذا النوع من التغييرات، خاصة أن وضع الركود الدائم لا يزال في سنواته الأولى.
الدكتور تشارلز بي جي بيت رئيس قسم الاقتصاد في جامعة ليستر وأستاذ الاقتصاد الدولي يوافق على وجهة النظر أعلاه ، لكنه يعتبر أن السياسات النقدية للبنوك المركزية الثلاثة الكبرى قد استنفدت كل ما لديها من قدرات على رفع معدلات النمو ، وأن مواصلة الأخذ بها ليس فقط مضيعة للوقت، وإنما إهدار للموارد المالية أيضا.
ويعتبر الدكتور تشارلز أن الهيكل الاقتصادي العالمي يمر بمرحلة تغيير ملحوظة لكنه أصيب بسلسلة من الوعكات الصحية العنيفة أخيرا، ما أدى إلى مواصلة الأزمة الاقتصادية وفشل السياسات المالية في عملية الإنقاذ.
ويضيف: “ يمكن تشبيه الوضع الراهن للاقتصاد الدولي بالآتي، هناك فتى يافع ينتقل من مرحلة المراهقة لمرحلة الشباب، قوي البنية مفتول العضلات مؤهل لأن يكون أحد أبطال كمال الأجسام والجميع معجب به ويراهن عليه، وفي المقابل كان هناك بطل عالمي آخر في كمال الأجسام مفتول العضلات أيضا ، ولكن في الخمسينيات من العمر يواصل ممارسة الرياضة ويحافظ على لياقته، ولكن عامل السن بدأ يأخذ مفعولة وبدأت عضلاته في الضمور الطبيعي، البعض يراهن عليه ولكنّ آخرين يتوقعوا له الخسارة في نهاية المطاف أمام القادم الجديد”.
ويتابع” فجأة أصيب الفتى اليافع بمرض لم يقض عليه، ولكن أوقف نموه ولو إلى حين، وبدأت قوته الجسدية في التراجع، وانسحب المراهنون عليه من الرهان، فأصابه ذلك بمزيد من الإحباط، على الجانب الآخر فجأة دبت الحياة مجددا في الرجل الناضج، وبدأت عضلاته التي كانت في طريقها للضمور في التحسن. هذا تحديدا وضع الاقتصاد الدولي، الشاب كان الاقتصاد الصيني والأسواق الناشئة والرياضي العجوز كانت الاقتصادات الرأسمالية عالية النمو والولايات المتحدة”.
هذا الوضع الجديد أربك المشهد تماما، فالرياضي العجوز أدمن لسنوات منشطات محددة وهي السياسات النقدية وأبرزها التيسير الكمي، لكن تلك المنشطات لم تعد تجدي نفعا، لم تعد مؤثرة، أحدثت تحسنا طفيفا لكنها لا يمكن أن تعيد له شبابه، بالطبع الشاب أيضا في حاجة إلى أدوية جديدة، ولكن حيث إننا نتحدث عن البنوك الثلاثة الكبرى، فإنها أقرب ما تكون إلى مدرب لم يعد لديه جديد يقدمه لمن يقوم بتدريبهم ولذلك مستواهم لا يتقدم”.
والحل من وجهة نظر الدكتور تشارلز البحث عن مدرب جديد ومنشطات أكثر فاعلية، وهي كما يعتقد السياسات المالية عبر إعادة ترتيب أولويات الميزانيات العامة، باستقطاعات ضريبية كثيفة لتشجيع الطلب، فالأزمة العالمية أزمة طلب وليست عرضا كما يقول، ودليله على ذلك انخفاض معدلات التضخم عن المعدلات المستهدفة من البنوك المركزية، ومعظم السياسات النقدية أو الجانب الأكبر منها سعى لتحفيز قطاع الأعمال بدلا من أن يحفز قطاع الأسر والمستهلكين. فالإصلاحات بدلا من أن تركز على الطلب في سوق العمل، وجعلت مثلا من الأسهل على الشركات توظيف أو طرد العمال، ودعمت المنافسة بينها. وهذا ما جعل السياسات النقدية غير مجدية من وجهة نظره.
ويدعم تلك الرؤية موقف حكومات منطقة اليورو، التي اتبعت منذ اندلاع الأزمة سياسات تقشفية لتحفيز النمو، لكنها لم تسفر عن تحسن ملموس في استعادة الثقة المفقودة لدى القطاع الخاص، في الوقت ذاته لم تستطع بلدان اليورو التلاعب في سعر صرف العملة الأوروبية الموحدة،خشية أن يشعل ذلك فتيل حرب عملات.
ومن هذا المنطلق فإن تزايد الأصوات الداعية إلى إعادة النظر في النظام الضريبي ودعم الإنفاق الحكومي لا تعني فقط دعوة مباشرة وصريحة لنزع الصلاحية من البنوك المركزية للتصدي للمشكلة الاقتصادية وحسب، وإنما أيضا تعني فقدان الثقة في قدرة السياسة النقدية على التصدي للأزمة الاقتصادية المتواصلة منذ سنوات، والمطالبة في المقابل بالمزيد من السياسات الضريبية التي تسمح بإعادة توزيع الدخل على نطاق المجتمع، وتقريب الفجوة بين الطبقات المختلفة لزيادة الطلب الفعال، بل وإعادة توجيه المنظومة الصناعية والخدمية لتلبية احتياجات قطاع أوسع من المواطنين.
الخبير المصرفي ورئيس قسم القروض الدولية في مجموعة لويدز المصرفية ستيورت هيل، لا ينفي الصعوبات المتزايدة أمام السياسات النقدية في الوقت الراهن، لكنه أيضا يستبعد أن تنجح سياسة زيادة الطلب الفعال في تحقيق قفزة ملموسة تسمح بالفكاك من حلقات الأزمة الاقتصادية الخانقة.
ولـ”الاقتصادية” يعلق قائلا “ بعكس المستهدف وهو رفع معدلات التضخم لتشجيع رجال الأعمال، نواجه حالة من التراجع في معدلات التضخم في الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي، وهذا دليل على ضعف الوضع الاقتصادي، ومن ثم يخلق شعورا لدى المستهلك بضرورة الاقتصاد في الإنفاق وزيادة الادخار، أي انخفاض الطلب” .
ويضيف “ كما أن زيادة الطلب ستصطدم بقضية الديون فخلال الفترة من 2007 إلى 2014 زاد الدين العالمي العام والخاص بـ 57 تريليون دولار أمريكي ، وزيادة الطلب تعني ضرورة زيادة الإنفاق الحكومي في مجال البنية الأساسية، كما فعلت الصين منذ عام 2009-2010 ، ولكن زيادة الإنفاق الحكومي سيستتبعه زيادة معدل الدين العام ، وزيادته كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي أيضا ، وهذه المشكلة ستزداد تعقيدا إذا تم التخلي عن السياسات النقدية كوسيلة حل وتم رفع أسعار الفائدة”.
الدكتور بيلي رو الخبير المصرفي، وعضو لجنة الاستراتيجيات البنكية التي شكلتها الحكومة البريطانية، لوضع خطة إصلاح النظام المصرفي البريطاني في أعقاب الأزمة المالية، لا يخفي انزعاجه من الشعور المتزايد في وسائل الإعلام، بأن السياسات النقدية لم تعد مجدية في الوقت الحالي.
ولـ”الاقتصادية “يقول “ أسماء كبيرة تضم لفيفا من رؤساء مجالس إدارات البنوك والشركات العالمية وأعضاء في هيئات إدارة صناديق التحوط يتساءلون الآن عن جدوى الاستمرارية في معالجة الأزمة الاقتصادية عبر السياسات النقدية، وهذا لا شك يخلق رأيا عاما ضاغطا على محافظي البنوك المركزية، بل يفقد تلك الآليات جزءا من فاعليتها نتيجة عدم تفاعل المجتمع معها”
ويستدرك “ حتى لو تم القبول بضرورة تحفيز الطلب، فإن انخفاض معدلات الفائدة لدى البنوك المركزية الثلاثة الكبرى الآن معضلة، فإذا صدقت التوقعات المتشائمة بأن نذر عاصفة اقتصادية ستضرب العالم، فإنه إذا واصلت أسعار الفائدة انخفاضها، فإن الدولة سيكون لديها عدد محدود للغاية من آليات تحفيز الطلب، ولن يكون أمامها غير فرض المزيد من معدلات الفائدة السلبية، وهو الوضع المطبق في اليابان والاتحاد الأوروبي، لكن الولايات المتحدة في وضع أفضل حاليا، لن هامش التراجع في معدلات الفائدة سيكون لديها أكبر من الآخرين، ولذلك نلاحظ أن جانيت يلين رئيسة الفيدرالي الأمريكي لم تعط موقفا حاسما برفض الفائدة السلبية كوسيلة للحل الاقتصادي”.
مع هذا يظل معدل الفائدة السلبي باعتباره إحدى آليات السياسة النقدية محل جدل بين الأكاديميين والخبراء المصرفيين. فالعاملون في النظام المصرفي يعتقدون أن سعر الفائدة السلبي نمط غير تقليدي للمعالجة النقدية للأزمة، ويكشف عن جدية البنوك المركزية الثلاثة في العمل على حل المشكلة الاقتصادية.
ويرى ستيفن كيربي نائب المدير التنفيذي لمجموعة نت ويست المصرفية أن المخاوف التي أشير إليها عند قيام اليابان والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأوروبية من خارج الاتحاد مثل الدنمارك وسويسرا بفرض أسعار فائدة سلبية لم تتحقق، بل استقبلت الأسواق تلك الآلية بصورة عادية للغاية، والمخاوف بأن عمليات سحب واسعة النطاق ستحدث، أو أننا سنشهد إحجاما شديدا من المواطنين على إيداع مدخراتهم في البنوك، كل تلك الظنون لم يتحقق منها شيء”.
ولكن هل نجحت تلك الآلية في إخراج اقتصادات البلدان التي طبقت فيها من أزمتها. يجيب ستيفن قائلا “ السياسة النقدية تتكون من عشرات من الإجراءات والتدابير، ومعدل الفائدة السلبي ليس أكثر من واحد من تلك الإجراءات، قد يكون غير تقليدي ولكنه في النهاية إجراء واحد، ويتطلب الأمر دعمه بتدابير أخرى مثل زيادة المبالغ المخصصة للتيسير الكمي إضافة إلى منح السياسة النقدية عامة ومعدل الفائدة السلبي خاصة المزيد من الوقت لمعرفة تأثيره الحقيقي”.
لكن الدكتورة إيفون هاتفيلد أستاذة الاقتصاد المقارن في جامعة شفيلد تعتقد أن معدل الفائدة السلبي يضعف إلى حد كبير التأثيرات الإيجابية للمكونات الأخرى للسياسة النقدية في تصديها للأزمة الاقتصادية.
وتعلق “ أولا كان يمكن لتلك السياسة أن تؤتي أكلها إذا كان الفيدرالي الأمريكي قد تبناها، إذ كان يمكننا القول بوجود اتجاه دولي عام يساندها، لكن في الوقت الذي يرفع فيه الفيدرالي أسعار الفائدة، فإن الاتحاد الأوروبي واليابان وبعض الدول الأوروبية يسيرون في اتجاه معاكس تماما، وهو ما يعكس عدم اتفاق في الرؤية بين الثلاثة الكبار لكيفية علاج الأزمة الاقتصادية العالمية، حتى إن اتفقوا في مركزية السياسات النقدية، ثانيا ما هي الفترة الزمنية التي سنتوقف بعدها عن تبني ذلك الإجراء؟، وما المعدل الكمي له بمعنى؟ هل يكون معدل الفائدة السلبي 1 في المائة أم 2 في المائة أم 3 في المائة؟ ما السقف المطروح لهذا المعدل؟”.