2016 .. هيكلة سوق العملات الدولية
بكل المعاير يعد عام 2015 عاما مفعما بالأحداث الجسام في سوق العملات الدولية، فالأمر لم يتوقف عند تراجع اليورو وانخفاض الين وصعود الاسترليني،كما لم يتوقف أيضا عند برهنة الدولار يوما بعد آخر بأنه سيد العملات بلا منازع، بل شهد إدراج عملة جديدة ضمن “سلة الكبار”، بعد أن تم ضم العملة الصينية “اليوان” إلى حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي.
لقد شهد العام أحداثا لم تقع منذ عقد من الزمان، وكان لوقعها صدى سريع على سوق العملات، وأحداث أخرى لم تشهدها أسواق العملات منذ عقود، وكان اتخاذها بداية لما يعتقد كثير من المختصين أنه إعادة هيكلة لسوق العملات الدولية على الأمد الطويل.فقرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة قرار لم يتخذ منذ يونيو 2006. وعلى الرغم من أن نسبة الزيادة لم تتجاوز ربع في المائة، حيث وصل سعر الفائدة حاليا إلى نصف في المائة، إلا أن القرار كان كفيلا بإحداث ردود فعل سريعة في معادلات التوازن الراهنة في علاقة العملة الأمريكية بعملات العالم الكافة، بل وعلاقة عملات العالم ببعضها البعض.
الأحداث الجسام طالت موضوعات أخرى نادرة الحدوث في أسواق العملات، فبعد سنوات من الانتظار انضمت العملة الصينية “اليوان” لسلة العملات الدولية، وإذ كانت تلك الخطوة خطوة نادرة لم تشهدها سوق العملات منذ عقود، فإن الاحتقان والتوتر بين الاقتصادات الكبرى كان سمة من سمات الوضع الاقتصادي في عديد من أشهر العام المنصرم. احتقان وتوتر وجد جذوره في تراجع معدلات النمو الاقتصادي لمعظم الاقتصادات الكبرى، وسعت كل دولة إلى زيادة صادراتها بكل الطرق، مسعى بدأ مع العالم في كثير من الأحيان وكأنه قرع لطبول حرب عملات ويقف على شفا هاوية كان السقوط فيها يعني خسارة الجميع. وعلى الرغم من تفادي الاقتصادات الكبرى الهرولة إلى تلك الحرب، فإن الاضطراب في الأسواق الدولية كان له ضحاياه. فقد تراجعت قيمة عملات أغلب الأسواق الناشئة إلى مستويات غير مسبوقة، وبما يطرح تساؤلات حول مستقبلها.
اشتباك الدولار مع اليوان
وعلى الرغم من أن قرار الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر الفائدة رسخ سيادة الدولار على عملات العالم في الأجل القصير على الأقل، كما يقول الاقتصاديين، فإن السؤال الذي هيمن على سوق العملات خلال الأشهر الأخيرة من عام 2015 تعلق بالمستقبل أكثر منه بالحاضر، وظل السؤال الأساسي يدور حول ضم اليوان إلى سلة العملات الدولية، وتأثير ذلك في مكانة الدولار في الأجل المتوسط والطويل؟
يقول لـ”الاقتصادية”روبرت ليتل كبير محللي الأسواق في مجموعة لويدز المصرفية إن الحدث يعتبر الأكبر في سوق العملات خلال العام الماضي، فخروج اليوان من دائرة العملة الوطنية ودخوله دائرة العملات العالمية جعله رسميا خامس عملة دولية.
ويعتبر روبرتان تلك الخطوة تمثل بداية لإعادة هيكلة سوق العملات على الأجل الطويل.
ولـ”لاقتصادية” يعلق قائلا “ تراجع سعر اليوان في مواجهة نظيره الأمريكي ليصل إلى أدنى مستوى له خلال أربعة أعوام ونصف العام ، والمتوقع أن يأخذ في تحقيق المزيد من التراجع في مواجهة الدولار خلال عام 2016، لأن الضغوط الدولية على بكين ستتصاعد للقيام بمزيد من الإصلاحات الاقتصادية، بما يتضمنه ذلك من خفض التدخل الحكومي في تحديد قيمة العملة الوطنية”
ويستدرك “ ومع هذا فان إدخال اليوان إلى سلة العملات الدولية ، يمثل تحديا كبيرا للدولار على المدى الطويل، والسبب ببساطة أن الاقتصاد الصيني يتفوق على الاقتصاد الأمريكي في مجال التجارة الخارجية، وهذا يؤهل العملة الصينية لأن تقتطع حصة كبيرة من نصيب الدولار في الأسواق الدولية”. إذا وفقا لوجهة النظر تلك سيدخل عام 2016 التاريخ الاقتصادي باعتباره بداية التحدي الحقيقي للعملة الأمريكية، حتى وإن واصل الدولار تفوقه الراهن على اليوان وعلى كافة العملات الأخرى.
البروفيسور ميتشل نسبيت الخبير الاقتصادي والمتخصص في مجال أسعار الصرف والعملات يعتبر من جانبه أن مشكلة سوق العملات عام 2015 ،التي ستمتد - من وجهة نظره–إلى عام 2016 وربما الأعوام المقبلة، تتجاوز المنافسة المتوقع اندلاعها بين العملة الصينية والأمريكية، أو حتى بين الدولار وباقي العملات الرئيسية،فالمشكلة ترتبط بقضية جوهرية لم تفلح الأسواق المالية في حسمها.
ولـ”لاقتصادية” يعلق قائلا “ سلوك البنوك المركزية يلعب الدور الحاسم في التعرف على توجهات أسعار الصرف المستقبلية، وقرار الفدرالي الأمريكي الأخير برفع سعر الفائدة وانعكاس ذلك على الدولار بارتفاع قيمته، نموذج مباشر وواضح لتلك العلاقة، فخلال عام 2015 ، نجد أن جزءا كبيرا من الاضطراب الحادث في أسواق العملات، خاصة في الاقتصادات الصاعدة يعود إلى عدم قدرة الأسواق والمستثمرين على التنبؤ بتوجهات البنوك المركزية.
ويستدرك قائلا “ المشكلة الراهنة أن الأسواق العالمية، ظلت تنتظر قرار المجلس الفيدرالي الأمريكي بشأن أسعار الفائدة، وبالطبع أغلب البنوك المركزية في العالم تمنت استمرار سياسية التيسير الكمي الأمريكية، وذلك تخوفا من الارتفاع المقبل في قيمة الدولار، وانعكاس ذلك على معظم العملات والاقتصاديات العالمية سلبا.“
ويضيف البروفيسور ميتشل نسبيت إذ “لم تستوعب الأسواق والبنوك المركزية الرئيسة خطوة الفيدرالي الأمريكي، فإن الاضطراب الناشئ يفتح الباب على مصراعيه لحرب عملات، خاصة إذا انعكس ارتفاع الدولار بشكل ملحوظ على قيمة اليوان الصيني، وتراجعت قيمته مع تواصل انخفاض معدلات النمو في الاقتصاد الصيني. “
مع هذا فإن عددا من كبار الاقتصاديين البريطانيين يعتبرون أن ما حدث في 2015 من ضم العملة الصينية إلى سوق العملات الدولية، لن يكون له تأثير يذكر في سوق العملات لسنوات مقبلة، وأن الأمر لا يتعدى “ خطوة رمزية”، وأن العملة الجديدة في حاجة لعقود طويلة، لتنجح في امتلاك الدرجة ذاتها من التأثير والمصداقية الاقتصادية، التي يمتلكها الدولار.
ويستبعد هؤلاء الاقتصاديون، اندلاع حرب عملات في القريب العاجل، على الرغم من إقرارهم بأن شبح تلك الحرب يحلق في الأسواق من حين إلى آخر، لكنه غير قادر على الانقضاض نظرا لإدراك الجميع حجم الكارثة الاقتصادية، التي سيمنى بها الاقتصاد الدولي إذا ما اندلعت تلك الحرب. ويبدو أن الصين التي تدرك جيدا أن اليوان، وإن دخل سوق العملات الدولية، فإن سلوكها المالي، لا يزال محل اختبار ومتابعة من قبل الحكومات والمستثمرين والمؤسسات الدولية الكبرى، ولذلك فهي تسعى لإيجاد حل لتراجع قيمة عملتها في مواجهة الدولار، ويطرح البنك المركزي الصيني حاليا مقترحات جديدة عبر عدم تقييم اليوان وفقا للدولار فقط، وإنما ربطه بمجموعة من العملات الدولية، وهو ما قد يمنح العملة الصينية وضعا نسبيا أفضل في سوق العملات الدولية. لكن أيا كانت قوة الصراع بين اليوان والدولار، وأيا كانت الجهود المبذولة لفك الاشتباك بين العملتين، فإنه لا يمكن حصر سوق العملات في العالم فيهما فقط ، مهما بلغت سطوة الاقتصادين اللذين يعبران عنهما.
“الاسترليني” وعملات أوروبا
أداء الاقتصاد الاسترليني البريطاني في مواجهة الدولار كان إيجابيا معظم أشهر العام الماضي، ولعب التحسن الذي طرأ على النشاط الاقتصادي البريطاني الدور الرئيس في ارتفاع العملة البريطانية في مواجهة غيرها من العملات. في المقابل تميز أداء اليورو الأوروبي بحالة من الاضطراب المصحوبة بالتراجع في مواجهة منافسيه من العملات الدولية خاصة الدولار، وإذا كان مرجع ذلك الوضع الصعوبات الاقتصادية في منطقة اليورو، فإنه من الجلي أن سياسة التيسير الكمي للمصرف المركزي الأوروبي لم تنعكس إيجابا على قيمة اليورو حتى الآن، وذلك على الرغم من قرار تمديد العمل بسياسة التيسير الكمي لعدة أشهر أخرى. ولـ”الاقتصادية” يعلق والتر دايلون المحلل المالي في بورصة لندن قائلا “ اليورو تراجع في 2015 بنحو 28 في المائة، والين بما يقارب 38 في المائة، وكلتا العملتين واجهتا عاما صعبا، ومن المتوقع أن يظل وضعهما سلبيا إلى حد ملحوظ خلال العام الجاري، فسياسات الإنعاش الاقتصادي في منطقة اليورو وفي اليابان لم تحقق نتائج ملموسة، ولا توجد مؤشرات قوية على تغيير الوضع خلال عام 2016، وهو ما يعني أنه في أفضل الأحوال ستظل قيمة العملة الأوروبية الموحدة والين الياباني في وضعهم الراهن”.
في مواجهة اليورو المتراجع، فأن الفرنك السويسري تمتع بوضعية قوية في الأسواق العالمية، لكن هذا لم يلق ترحيبا من محافظ البنك الوطني السويسري توماس جوردن، الذي أرجع تقييم الفرنك بأعلى من قيمته الحقيقية، إلى الاختلاف في السياسات النقدية على المستوى العالمي ما “ خلق بيئة معقدة للسياسات المالية”.
وإذا كان محافظ البنك الوطني السويسري قد افتتح عام 2015 بقرار هز أسواق العملات، عندما قام بإلغاء الرابط بين الفرنك واليورو، وتسبب هذا القرار في ارتفاع حاد في قيمة الفرنك، وخسائر قدرها البنك الوطني السويسري خلال الأشهر الستة الأولى من العام الماضي بنحو 50 مليار فرنك، إلا أن السلطات المالية في سويسرا أصيبت بما يمكن وصفه بالصدمة، جراء ضم اليوان إلى سلة احتياطيات صندوق النقد الدولي، وتجاهل الفرنك على الرغم من تعويلها على إمكانية أن تحجز عملتها مقعدا لها ضمن العملات الدولية.
عملات الأسواق الناشئة
وسط حالة الصعود والهبوط في أسواق العملات العالمية الكبرى، وهو ما يعد أمراً راسخا في بنية هذا السوق، فإن عملات الأسواق الناشئة شهدت عاما عنيفا ومضطربا للغاية.
وهنا يقول لـ”الاقتصادية” مات برين المحلل الاستراتيجي لأداء الأسواق في مجموعة الاستثمارات الدولية “ عملات الاقتصادات الصاعدة تخوض صراعا مزدوجا، فهناك منافسة حادة فيما بينها، كما أنها تخوض صراعا عنيفا جراء التداعيات السلبية التي تعانيها منها جراء ارتفاع قيمة العملات الدولية وتحديدا الدولار الأمريكي”.
ويضيف “ الدولار الأمريكي في أعلى مستوى له أمام العملات الناشئة خلال 13 عاما، وعام 2015 كان وبالا على معظم عملات الاقتصادات الصاعدة خاصة الليرة التركية والروبل الروسي الذي فقد 56 في المائة من قيمته في مواجهة الدولار الأمريكي وكذلك العملة البرازيلية وعملة جنوب أفريقيا “
ويعتقد بعض المختصين أن وضع عملات الاقتصادات الصاعدة لربما يزداد سوءا مع رفع الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة، إذ يتوقع أن يكون متوسط خسائرها بين 3 و 5 في المائة خلال عام 2016. وحول أكثر العملات الناشئة تعرضا للتراجع خلال العام المقبل يعلق لـ”الاقتصادية” الدكتور فرانك اوهار أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة مانشستر قائلا “ رغم أن عام 2016 سيشهد استمرارا في منحنى هبوط قيمة عملات الأسواق الناشئة، إلا أن معدل الهبوط سيكون أقل، وبصفة عامة ستستفيد العملات المرتبطة بالدولار، ولكن العملات التي ستتعرض لهزة عنيفة هي عملات الدول التي اقترضت بالدولار من المؤسسات المالية الدولية، إذ يتوقع أن تتدهور قيمة عملتها بشكل ملحوظ ، وأبرزها تركيا وإندونيسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا التي تواجه عملتها وضعا شديد الصعوبة حاليا”.