رفع الفائدة الأمريكية .. بداية النهاية لعصر «النقود الرخيصة»
أخيرا اتخذ القرار الذي ترقبته الأسواق والمؤسسات المالية والبنوك المركزية لسنوات طويلة، فقد عزمت جانيت يلين رئيسة «الفيدرالي الأمريكي» أمرها، وأعلنت زيادة سعر الفائدة الأمريكي قبل نهاية عام 2015 بأيام، وبنسبة 25 نقطة أساس ليصل سعر الفائدة الأمريكي الآن إلى نصف في المائة.
نسبة زيادة لا تعد كبيرة ، لكن أهمية القرار وتاريخيته تأتي من كونه الأول منذ تسعة أعوام ونيف لم يرفع فيها «الفيدرالي» أسعار الفائدة، وكان ترقب الأسواق لصدور القرار كفيلا بألا يكون العنوان الرئيسي لوسائل الإعلام في العالم فحسب، إنما استتبعت موجات من ردود الفعل في عديد من المجالات الاقتصادية.
لكن قبل التطرق إلى تفاصيل ما حدث وتداعياته، فإن ما يجب طرحة أولا سؤال بسيط لكنه جوهري، لماذا يعد رفع الفائدة الأمريكي أمر بهذه الأهمية؟ ما الذي يدفع قنوات محلية ووسائل إعلام وطنية إلى أن تجعل من الخبر العنوان الرئيسي لها ؟ لماذا يجلس مزارع في مزرعة نائية في ولاية البنغال الهندية أمام شاشة التلفاز ليتابع تفاصيل الخبر، في الوقت الذي يهتم فيه على سبيل المثال أحد أغنى رجال الأعمال في “وول ستريت» بقرار الفيدرالي الأمريكي؟ ما القاسم المشترك الذي يجعل فلاحا هنديا معدما ومضاربا في البورصات يتابعان ذات الخبر.
الأمر باختصار أن رفع الفائدة الأمريكية سينعكس على الطرفين، وسيؤثر في حياتهما المادية، بالطبع لن يكون ذات التأثير، لكن المؤكد ان أوضاعهما المالية قبل رفع الفائدة وبعدها لن تكون كما هي. فالدولار سيد العملات، وسواء شئت أم لم تشأ، وسواء كنت فلاحا فقيرا أو رجل أعمال ثريا فالعملة الأمريكية تلعب دورا مهما في حياتك اليومية، وسواء كنت تنفقه بشكل مباشر، أو تستهلك سلعا تدفع ثمنها بالعملة المحلية، لكنه تم استيرادها من الخارج ودفع ثمنها بالدولار، فأنك لن تستطيع الفكاك من براثن العملة الأمريكية وتأثيرها في حياتك.
وإذا دخلنا في أعماق المشهد الاقتصادي، فسنجد ان أهمية قرار «الفيدرالي الأمريكي» يكمن في أنه بداية النهاية لعصر النقود الرخيصة، بالطبع لم تكن النقود في أي وقت من الأوقات رخيصة على الأقل بالنسبة إلى مليارات البشر، لكن المصطلح يستخدم جوازا للتعبير عن إمكانية الاقتراض من المصارف بسعر فائدة زهيد. والاقتراض من المصرف بسعر فائدة زهيد يعني أنه في إمكانك شراء سيارة أو منزل أو تمويل مشروع بتكلفة أقل.
كان هذا هو الحال على مدار الأعوام العشرة الماضية تقريبا، وبالطبع يفترض أن نكون جميعا سعداء، فسعر الفائدة لدى البنك المركزي الأمريكي يقارب الصفر، ومن ثم يقرض البنوك التجارية بسعر فائدة منخفض جدا، وبدورها تقرض المصارف التجارية الشركات ورجال الأعمال والدول أيضا قروضا بسعر فائدة منخفض، ويصبح في إمكان الشركات المقترضة توظيف مزيد من القوى العمالة، والتوسع الاقتصادي، وتحقيق مزيد من الأرباح. لكن قرار جانيت يلين يعني أنها أطلقت طلقة تحذير أولية، بأنه لم يعد في قدرة «الفيدرالي الأمريكي» المضي قدما في هذا الإجراء، فمعدلات نمو الاقتصاد الأمريكي آخذة في الارتفاع، ومعدل البطالة آخذ في الانخفاض، والشركات تربح، ومزيد من السيارات والمنازل يباع ، وعدد الرحلات السياحية في الداخل أو الخارج في تزايد، إذا باختصار وبالتعبير الدارج “ الناس معها فلوس”، ومن ثم رأت جانيت وكل فريق المصوتين على القرار ، أنه آن الأوان «الفيدرالي» أن يحصل أيضا على جزء من الكعكة، وان يشارك الآخرين في هذا النجاح الاقتصادي ، وحصة «الفيدرالي الأمريكي» سينالها برفع أسعار الفائدة. مع ذلك فإن القرار لم يلق ترحيبا من الجميع. البروفيسور جرهام ليتل الاستشاري السابق في بنك إنجلترا يعلق لـ «الاقتصادية» قائلا بلغة الأرقام يبدو القرار منطقيا، معدل البطالة في الولايات المتحدة تراجع إلى 5 في المائة وذلك أدنى مستوى له منذ سبعة أعوام ونصف، معدل النمو السنوي بلغ 2.1 في المائة ، وهو معدل مقبول وإن كان أقرب إلى الضعف منه إلى القوى، وعلينا أن نتذكر أن سعر الفائدة بالزيادة أو النقصان إجراء يدخل ضمن إجراءات الطوارئ الاقتصادية لإنقاذ الوضع أو توجيهه، وخلال الفترة من سبتمبر 2007 حتى ديسمبر 2008 تراجع سعر الفائدة الأمريكي من 5.25 في المائة إلى صفر ثم ارتفع إلى 0.25 في المائة ، لكن القرار اتخذ والاقتصاد الأمريكي لم يتوازن بعد يشكل كاف، ورغم انخفاض البطالة فان اغلب عقود التشغيل عقود مؤقتة ، ومعدل النمو في عديد من الولايات منخفض”. ويعرب البروفيسور جرهام عن مخاوفه قائلا “أشك في أن تكون الشركات الأمريكية أو الأسواق الناشئة التي اقترضت بالدولار قادرة على سداد ما عليها من ديون الآن، خاصة شركات النفط الصخري الأمريكية، فهي الآن باتت محاصرة بين انخفاض أسعار النفط من جانب ، ورفع الفائدة من جانب آخر، ولهذا أتوقع ان تشهد الأشهر المقبلة خروج أعداد كبيرة من تلك الشركات من سوق النفط”.
مع هذا يدافع أنصار جانيت عن القرار، فرفع الفائدة سيكون وسيلة فعالة لردع عملية الاقتراض من أجل الاستهلاك، وسيؤدي إلى القضاء على ظاهرة “الفقاعة العقارية” التي بدأت تظهر في السوق الأمريكية، ويسعى أنصار رئيسة «الفيدرالي» إلى تهدئة مخاوف المستهلكين خاصة أن القرار اتخذ في ذروة فترة البيع في الأسواق الأمريكية والغربية، نتيجة قرب أعياد الميلاد والعام الجديد، بأن نسبة 0.25 في المائة زيادة في الفائدة نسبة محدودة. الدكتورة روز جونسون أستاذة الاقتصاد الدولي تعلق لـ «الاقتصادية» قائلة . معظم الأسر الأمريكية الآن أقل مديونية مما كانت عليه خلال الأزمة الاقتصادية، وأصحاب العقارات أكثر قدرة في التعامل مع الرهن العقاري، ولهذا لا أعتقد أن قرار «الفيدرالي الأمريكي» سيؤثر سلبا في الاقتصاد الأمريكي».
لكنها تضيف “أعتقد أن خطورة القرار تتمثل في انعكاساته السلبية على الأسواق الناشئة، وما سيخلقه من معادلات جديدة في سوق العملات».
روبرت كوبرن كبير استراتيجي الأسواق في بنك نت ويست يعتقد أن الأسواق الناشئة تعد المتضرر الرئيسي من قرار «الفيدرالي الأمريكي». ولـ «الاقتصادية» يقول “ النتيجة الحتمية للقرار ستترجم في ارتفاع قيمة الدولار، وهذا سيؤثر الأسواق الناشئة من زاويتين».
أولا: ارتفاع الفائدة لربما يدفع المستثمرين في بلدان مثل تركيا وشيلي وإندونيسيا والصين وروسيا، إلى تصفية استثماراتهم والمغادرة للاستثمار في الدولار الأمريكي، عن طريق الإيداع في المصارف الأمريكية، لكن هذا يتطلب مراقبة الأسواق لأن معدل الزيادة في الفائدة الأمريكية لم يكن كبيرا، وقد يفقد الكثير من المستثمرين في الأسواق الناشئة الحماس للمغادرة. لكن المؤكد أن الوضع الراهن لن يجذب كثيرا من المستثمرين للاستثمار في الأسواق الناشئة.
ثانيا: أغلب الاقتصادات الناشئة سواء حكومات أو شركات خاصة جزء كبير من ديونها تقييم بالدولار، بينما عوائدها تحصل عليها بالأساس من السوق المحلية بالعملة الوطنية، ولذلك سيكون من الصعب عليها تسديد تلك الديون أو فوائدها». ويضيف “المشكلة تزداد تعقيدا إذ ان رفع سعر الفائدة جاء في توقيت سيئ للاقتصاديات الناشئة، فأسعار عديد من السلع الأولية أو الخام مثل النفط والمعادن والمنتجات الزراعية منخفضة، ومن ثم أتوقع ان تواجه العديد من الاقتصادات الناشئة أزمة سيولة حادة في الفترة المقبلة، كما ان قدرتها على الاقتراض من الخارج ستكون صعبة، ولربما الاستثناء الوحيد بعض البلدان النفطية التي لا تزال تتمتع بمعدل مرتفع من الثقة الائتمانية”.
ربما يكون سوق العملات أول المتأثرين بقرار «الفيدرالي»، إذ عزز القرار من قيمة الدولار بالأخذ في الارتفاع منذ أشهر، وتشير التقديرات إلى أن قيمة الدولار زادت بنحو 4 في المائة منذ أكتوبر الماضي، عندما ألمح «الفيدرالي» بأنه سيتخذ قريبا قراره برفع الفائدة، لكن مواصلة الدولار الارتفاع أضحت مشكلة بالنسبة إلى كثير من الشركات الأمريكية، التي تعتمد على التصدير للخارج، إذ تراجع معدل الربحية لديها نظرا لانخفاض الطلب على السلع الأمريكية لارتفاع أثمانها.
لكن عددا من الاقتصاديين يحذرون مما يعتبرونه تداعيات يمكن ان يؤدي حدوثها على المستوى العالمي إلى تغير في المشهد الراهن، بما قد يدفع بـ «الفيدرالي الأمريكي» إلى إعادة النظر في قراره.
كيفين ريد الباحث الاقتصادي في معهد الدراسات الاقتصادية الدولية، يعتبر أن المؤتمر الصحفي الذي عقدته جانيت يلين في أعقاب رفع أسعار الفائدة، ترك الباب مفتوحا لإمكانية التراجع عن القرار، إذا ما أدى إلى نتائج عكسية، وسط تطمينات من جانبها بأن عملية رفع سعر الفائدة لن تتخذ في كل اجتماع دوري للفيدرالي».
ولـ «الاقتصادية» يعلق قائلا أولا «الفيدرالي» سبق الآخرين بهذا القرار، وخاصة بنك انجلترا، وعلينا أن نراقب خلال الفترة المقبلة ردود فعل البنوك المركزية الكبرى كبنك إنجلترا ودويتشه الألماني والمركزي الأوروبي والصيني والياباني، وعلى الرغم من أن بنك إنجلترا أعلن ان أول رفع للفائدة سيكون في الربع الثاني من العام المقبل، إلا أنه قد يجبر على تبكير الموعد إذا ترك قرار «الفيدرالي» تداعيات سلبية على الاقتصاد البريطاني كتراجع الاستثمارات الأجنبية».
ويضيف “اليورو سيواجه وضعا شديد الصعوبة خلال الفترة المقبلة لارتفاع الدولار، وربما يزداد وضع الاقتصاد الأوروبي ككل تعقيدا بدخوله مرحلة الركود، كما أن النفط سيواصل الانخفاض، وسيزداد وضع البلدان المصدرة للنفط تراجعا، هذا المشهد الدولي المضطرب، لن يقف عند حدود الدول، إذ سينعكس بلا شك على سوق الأسهم». وتبدو سوق الأسهم حتى الآن مرحبة بقرار رفع الفائدة الأمريكية، ولـ «الاقتصادية» يعلق جيم ديلون المحلل المالي في بورصة لندن قائلا «رد الفعل الأولى كان إيجابيا والبورصات الأوروبية الرئيسية ارتفعت بين 1 - 3 في المائة، وربما يرجع ذلك إلى أن الزيادة التي أعلنها الفيدرالي كانت متواضعة، والأهم التعهد بأن تكون تدريجية، فأكثر ما يزعج الأسواق هو القرارات الجذرية المفاجئة، حيث يتطلب الأمر في هذه الحالة إجراءات سريعة لوقف الخسائر والتأقلم مع الأوضاع الجديدة، ولذلك سوق الأسهم كانت مستعدة منذ أشهر لهذه الزيادة، وتعاملت معها بشكل مريح”
الاستجابة الطيبة لم تكن في سوق الأسهم فقط فقد امتدت إلى سوق السندات الحكومية أيضا، فالسندات العشرية الأمريكية ارتفعت بشكل طفيف من 2.27 في المائة إلى 2.30 في المائة.
مع هذا يدعو البروفيسور والتركين أستاذ التحليل الاقتصادي إلى التريث لمعرفة التداعيات الحقيقية للقرار التاريخي لمجلس الاحتياط الأمريكي. ولـ «الاقتصادية» يعلق قائلا “حتى الآن تبدو استجابة الأسواق هادئة ورزينة لهذا القرار التاريخي، ربما يكون جراء الطابع المتواضع والتدريجي للزيادة، ولكن حتى نمتلك صورة كاملة وموضوعية عن حقيقة المشهد، لا بد من التريث بعض الوقت لمعرفة الكيفية التي ستتعامل بها الأجزاء المختلفة للآلة الاقتصادية على المستوى الدولي مع القرار، فإذا استوعبت الأسواق الناشئة والبنوك المركزية الأخرى الوضع، فسنكون أمام بداية حقيقية للخروج من الأزمة الاقتصادية لعام 2008، أما إذا حدث العكس فلن يكون أمام جانيت وأنصارها غير الإسراع بخفض سعر الفائدة، وأخشى أن تكون محاولة متأخرة لإنقاذ الوضع”.