التحول الوطني.. «الجرأة في التغيير»
التحديات الاقتصادية هي قدر حياة كل المجتمعات وعبر كل العصور والحديث عن حلولها قصة لا تنتهي في البيوت والمجالس والدوائر السياسية، ونعيش في المملكة هذه الأيام تحديا اقتصاديا متجددا وهو الاعتماد على النفط كرافد رئيس للاقتصاد الوطني والموازنة العامة خصوصا في ظل هبوط أسعار النفط الكبير والمفاجئ. والحقيقة أن الحديث عن التنويع الاقتصادي بدأ منذ عدة عقود وتم تحقيق بعض التقدم في هذا الصدد ولكننا لا نزال بعيدين عن الاقتصاد المستدام الذي نصبو إليه. في ظل هذا التحدي والسباق مع الزمن كان لا بد من إعداد الخطط واستحداث المبادرات واتخاذ إجراءات اقتصادية عدة أهمها برنامج التحول الوطني.
ويقصد بالتحول (Transformation) في هذا السياق: الانتقال من الحالة الراهنة إلى حالة أفضل على المستوى الوطني وبشكل متسارع، ومن الممكن مقاربة التحول الوطني من عدة جوانب اقتصادية واجتماعية وسياسية وحكومية ونقدية وبيئية ورقمية وعلمية وغيرها ولكن أكثرها شمولية ولربما أهمية في هذه المرحلة للمملكة هما الجانبان الحكومي والاقتصادي وهما متداخلان بشكل كبير ولكن لكل منهما ما يميزه ويوجب دراسته على حدة.. “الاقتصادية” تتناول في هذا التقرير الخاص مفهوم التحول الحكومي للمملكة من منظور عام – وقراءة لبرنامج التحول الوطني الذي أُعلن عن خطوطه العريضة مؤخرا.
#2#
بشكل عام يهدف أي برنامج للتحول الحكومي إلى رفع كفاءة مؤسسات الدولة وجودة الخدمات والمنتجات التي تقدمها للمواطنين ومساهمتها في التنمية الاقتصادية، إضافة إلى ضمان استدامة المنظومة المالية الحكومية، وتتباين هذه البرامج من حيث الأهداف والشمولية. أما أحد أبرز تجارب التحول الحكومي في العالم فهي التجربة الماليزية التي كانت ردة فعل الحكومة هناك على الكساد الاقتصادي الذي سببته الأزمة المالية العالمية في 2008 ويرافقه برنامج آخر مواز هو برنامج التحول الاقتصادي. يهدف برنامج التحول الحكومي الماليزي إلى تحقيق عدد من الأهداف للمساهمة في الارتقاء بماليزيا إلى مصاف الدول ذات الدخل المرتفع من خلال معالجة عدة تحديات من ضمنها الجريمة والفساد وجودة التعليم وتطوير الأرياف والنقل وغيرها وقد تمكن البرنامج من تحقيق عدد من أهدافها في الطريق إلى تحقيق الرؤية لعام 2020.
دوافع التحول الحكومي للمملكة
بلا شك أن أهم مسوغات التحول الحكومي للمملكة هو انهيار أسعار النفط وبالتالي أثره في السياسة المالية للدولة التي ترسم الموازنة العامة للحكومة وتوزيع الإنفاق على القطاعات المختلفة وتحصيل الموارد وتغطية النفقات الجارية والرأسمالية.
ولقد اتسمت السياسة المالية السعودية في السنوات الماضية بالتوسع الكبير حيث بلغت نسبة نمو الموازنة العامة في الفترة ما بين 2004 و 2014 نحو15 في المائة سنويا بشقيها الجاري والرأسمالي، والأخير شكل النسبة الأكثر نموا مدفوعا بطفرة المشاريع التنموية في مجالات شتى أهمها التعليم والصحة والمواصلات حيث مثلت المصروفات الرأسمالية ثلث الميزانية العامة في عام 2014 وهو رقم كبير جدا يفوق المعدل العالمي بكثير. كما تجاوزت المصروفات الفعلية الكلية للمملكة ذلك العام ترليون ريال لأول مرة في تاريخ المملكة.
#3#
اقترن هذا التوسع الحكومي بشكل كبير بارتفاع أسعار النفط خلال تلك الفترة إذ قفز سعر النفط من مستوى الثلاثينات في 2004 ليتخطى المائة دولار في بضع سنوات. ويكاد عام 2009 أن يكون الوحيد الذي خالفت فيه المصروفات توجه أسعار النفط لأن انخفاض أسعار النفط حينها كان بسبب الأزمة المالية العالمية وكانت النظرة قصيرة المدى تشير إلى تعافيه بمجرد نهوض الاقتصادي العالمي من الأزمة، لذا ارتأت الدولة رفع الإنفاق كنوع من إجراءات التحفيز الاقتصادي خصوصا مع تأثر عدد من القطاعات الإنتاجية الأخرى بالأزمة المالية العالمية. وقد نجحت هذه السياسة بالفعل في الحد من آثار تلك الأزمة في الاقتصاد الوطني. ولكن الوضع الراهن يختلف كثيرا عن تلك الفترة فهبوط أسعار النفط أكثر حدة ولا توجد بوادر لانتعاشه في الفترة قصيرة المدى، والأهم أن مسبباته مزمنة أكثر من أزمة 2009 إذ إن معادلة الإنتاج دخل فيها لاعب جديد ومؤثر وهو النفط الصخري.
لذا كان لزاما التوقف وإعادة النظر في خريطة الطريق والبحث عن طرق أكثر سرعة كفاءة وفعالية من خلال التحول الحكومي.
#4#
ومن المهم هنا ذكر أن التقشف في الميزانية كما هو الحال في اليونان هو أحد أنواع التحول الحكومي ولكنه يركز بشكل كبير على جانب خفض النفقات من خلال تقليص الوظائف وخفض الرواتب وإيقاف المشاريع، ولا يؤخذ به إلا في حال نضبت الاحتياطيات النقدية ووصل الدين العام إلى مستويات كبيرة (180 في المائة من حجم الناتج المحلي في اليونان) كما أن للتقشف آثاراً سلبية مباشرة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي حال المملكة فإن الملاءة المالية للدولة تسمح لها بتفادي إجراءات تقشفية قاسية حيث إن احتياطي مؤسسة النقد يتجاوز ترليوني ريال وحجم الدين العام لا يتعدى 5 في المائة من الناتج المحلي. أي أن المملكة قادرة حتى مع استمرار أسعار النفط الحالية على الاستمرار في الإنفاق و تغطية العجز من خلال الاستدانة والاحتياطيات النقدية لعقد أو يزيد قبل الوصول إلى الحالة المالية لليونان. ولكن هذا التوجه لن يمنح المملكة سوى وقت مستقطع ولن يوفر لنا حلولا حقيقية لتحقيق التنمية المستدامة. ومن هنا على التحول الحكومي معالجة التحديات الراهنة بشكل أكثر شمولية وتعمقا.
تحديات التحول الوطني
يمكن حصر أهم التحديات المنتظر من التحول الحكومي للمملكة أن يعالجها في المرحلة القادمة بما يلي:
أ. تنويع مصادر الدخل للموازنة العامة
ب. رفع كفاءة مؤسسات الدولة
ج. معالجة قضايا هيكلية في الإنفاق الحكومي
نسهب قليلا في الحديث عن هذه التحديات (أو الفرص) في الأجزاء التالية من التقرير.
أ. تنويع مصادر الدخل
يوضح الرسم البياني المرفق العلاقة (الوطيدة) بين الموازنة العامة وأسعار النفط وهذه الصورة أبعد ما تكون عن الاستدامة المالية في ظل تذبذب أسعار النفط والأهم مع اليقين أن النفط سلعة ناضبة لن تدوم للأجيال القادمة. كما أن المعادلة السكانية تفرض علينا أن نبحث عن مصادر أخرى للموازنة العامة، فبمقاربة تاريخية نجد أن ما تصدره المملكة من النفط لكل مواطن كان يصل إلى برميل لكل مواطن في فترة السبعينيات أما الآن فهو يقل عن ثلث برميل لكل مواطن وسوف يواصل هذا المعدل الانخفاض في السنوات القادمة مع النمو السكاني المطرد.
#5#
إن تقليص الإنفاق، وإن كان ضروريا في نطاق معين فإنه لن يؤدي بأي حال إلى العودة إلى حجم ميزانية التسعينيات التي لم تتجاوز 300 مليار ريال فالمصروفات الجارية فقط التي يشكل بند رواتب موظفي الدولة جزءا كبيرا منها تصل إلى 700 مليار ريال.ويسهم دخل المملكة غير النفطي بجزء بسيطا من الدخل الحكومي لا يتجاوز الـ200 مليار ريال في ظل عدم وجود ضرائب ورسوم تذكر. إذ بلغ إجمالي دخل الزكاة والضرائب والرسوم الجمركية للعام الماضي 53 مليار ريال أي ما يقارب 2 في المائة من الناتج المحلي بينما لا تقل هذه النسبة عن 15 في المائة في معظم دول العالم فنجدها تصل إلى 21 في المائة في أستراليا و 18 في المائة في الاتحاد الأوروبي و15 في المائة في كوريا و14 في المائة في البرازيل وأيضا في عدد من الدول النفطية مثل النرويج (25 في المائة) وروسيا (15 في المائة) كما أن الموازنة العامة لمعظم الدول في العالم تعتمد بشكل شبه كامل على دخل الضرائب وتُفرض هذه الضرائب على الشركات والأفراد بأوجه عدة وتصل في بعض الدول إلى 60 في المائة من دخل الفرد.
بلا شك أنه لا تستدعي الحاجة في المملكة حاليا إلى الوصول إلى هذه المستويات في ظل استمرار الدخل النفطي ولكن ما لا مفر منه هو حتمية تضاؤل دخل النفط مقارنة بأعباء الدولة حتى نصل إلى اليوم الذي نصدر فيه آخر برميل نفط، لذا يتعين البدء التدريجي في وضع آليات تحصيل الزكاة والضرائب مثل رسوم الأراضي البيضاء وضريبة القيمة المضافة التي أقرها أخيرا مجلس التعاون الخليجي.
ب. رفع كفاءة مؤسسات الدولة
ينتظر المواطن من مؤسسات الدولة تقديم أفضل مستوى من الخدمات والبنية التحية ومن ضمنها الأمن والتعليم والصحة والطرق والمواصلات وغيرها. ولكن لا يزال عديد من الخدمات الحكومية دون التطلعات ويتطلب عملا تطويريا كبيرا. إدارة منظومة تضم أكثر من مائة وزارة ومؤسسة وهيئة حكومية يعمل فيما يزيد على مليون موظف وتخصص لها ميزانية تقارب ترليون ريال يشكل تحديا إداريا ضخما فكيف بتطويرها.
فقطاع الصحة لا يزال يعاني قصورا في الجودة وخللا في الطاقة الاستيعابية. ويبلغ عدد منسوبي وزارة الصحة من الأطباء والممرضين والصيادلة والفئات الطبية المساعدة ما يزيد على المائة وخمسين ألفا في أكثر من مائتي مستشفى وألفي مركز صحي، وهي منظومة كبيرة ومترامية الأطراف جغرافيا، تعاقب عدد من وزراء الصحة الأدوار في السنوات الماضية سعيا وراء إصلاحها وتطويرها. كما أن نماذج تشغيل هذا القطاع متعددة ومحل جدال ونتائج مختلفة حتى في الدول المتقدمة.
أما قطاع التعليم فعلى الرغم من تحقيقه توسعا كبيرا في العقود الماضية محققا معدلات عالية في القبول والاستيعاب في جميع المراحل بما فيها الجامعية إلا أن المملكة لا تزال بعيدة عن مصاف الدول المتقدمة في معظم مؤشرات الجودة. وتحدي تطوير قطاع التعليم لا يقل تعقيدا عن الصحة فقد قارب عدد معلمي وزارة التعليم نصف مليون معلم ومعلمة يشرفون على خمسة ملايين طالب وطالبة. هذا عدا عن شق التعليم العالي الذي يضم أكثر من مليون ونصف طالب وطالبة. فللقارئ تصور الصعوبة الإدارية واللوجستية لتطوير قدرات نصف مليون معلم ومعلمة في مئات المدن والقرى والهجر السعودية. الصحة والتعليم هما مثالان فقط عن القطاعات الاجتماعية ذات الحاجة الماسة إلى التطوير. ولكن التحول الحكومي يجب أن يشمل أيضا تطوير ودعم المؤسسات المعنية بقطاعات التنمية الاقتصادية ومن ضمنها منظومتي دعم الصناعة ودعم العلوم والتقنية والابتكار حيث تشكلان المحرك الرئيس لخطط التنوع الاقتصادي صناعيا ومعرفيا. وأحد التحديات هنا أنه من السهل إغفال أهمية هذين القطاعين عند شح الموارد المالية للدولة مع أنهما يحملان عبء التنويع والاستدامة للاقتصاد الوطني.
إضافة إلى ذلك فإن النمو الكبير والسريع خلال العقد الماضي ساهم في خفض الكفاءة الإنتاجية لمؤسسات الدولة وهو أمر شائع لدى أي منظومة تعيش فترة نمو وازدهار سواء كانت شركة أو دولة حيث يطغى فكر التوسع على فكر الكفاءة. وقد كثر الحديث أخيرا عن تعثر المشاريع والفساد الإداري وارتفاع التكاليف التشغيلية وتكدس الموظفين وغيرها من علامات ضعف الإنتاجية.من هنا تقتضي الكفاءة التشغيلية على الاستفادة المثلى من الموارد المالية والبشرية للدولة (أكثر من مليون وربع موظف) والارتقاء بإنتاجيتها وتحديد مدى الحاجة إلى التوسع بدقة. إن ضعف الكفاءة وإن كان مؤشرا سلبيا فإن له جانبا مشجعا وهو وجود إمكانية حقيقية لتحسين المخرجات(كما وكيفا) وتقليل التكلفة في آن معا.
ج. معالجة قضايا هيكلية في الإنفاق الحكومي
شكل جزء كبير من الإنفاق الحكومي في المملكة خلال العقود الماضية دعم المنتجات والإعانات التي لا توجد عادة في الاقتصاديات المتقدمة بالشكل الموسع الذي نراه لدى الدول الريعية كالمملكة، ويشمل ذلك دعم الطاقة والغذاء والمياه ومكافآت الطلبة وغيرها. من الممكن الاستمرار في تقديم هذه الإعانات لعدد من السنوات وتحمل عبء العجز في الميزانية من خلال الاستدانة والسحب من الاحتياطي النقدي كما ذكر سلفا ولكن مع النمو السكاني وتضاؤل ريع النفط سوف لن يكون هنالك مفر من إعادة النظر فيها. من هنا يجب أخذ خطوات جدية في البدء بتخفيض الإعانات في القطاعات الأقل ضررا على المواطن والأكثر إفادة للاستدامة وأهمها قطاع الطاقة.
تصل فاتورة دعم الطاقة في المملكة إلى 150 مليار ريال حسب تقديرات الوكالة الدولية للطاقة ويشكل ذلك أكثر من 15 في المائة من ميزانية الدولة السنوية وهو رقم كبير جدا يفوق بثلاثة أضعاف ما يتم إنفاقه في جميع الجامعات السعودية الـ28. إن تخفيض الدعم ولو بنسبة 10 في المائة من شأنه أن يسهم في تحويل جزء كبير من الإنفاق إلى قطاعات حيوية وذات أثر كبير في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ويذكر هنا أن مؤسسة النقد الدولية دعت المملكة في عدة تقارير إلى إعادة النظر في حجم دعم الطاقة لتحقيق الاستدامة المالية والاقتصادية.
كما أن دعم الطاقة وإن كان قد أسهم في التوفير على المواطن بشكل مباشر إلا أنه أيضا أدى إلى الإفراط الكبير جدا في استهلاكها. فلا تزال المملكة من ضمن أقل الدول تعرفة للطاقة حتى بعد الزيادة الأخيرة. فسعر البنزين على سبيل المثال في المملكة يعد ثاني أقل سعر في العالم بعد فنزويلا. وبالمقارنة نجد سعر الليتر في دولة النرويج وهي من أكبر مصدري النفط في العالم يزيد على 6 ريالات للتر (ما يقارب الثمانية أضعاف سعره في المملكة). نتج عن ذلك ارتفاع كبير جدا في استهلاك المملكة للمنتجات للنفطية حيث إن ما يستهلكه الفرد في السعودية يفوق نظراءه في معظم دول العالم ويتصدر دول منظمة العشرين.
هذه الظاهرة في الاستهلاك تشكل خطرا كبيرا على الاستدامة الاقتصادية للمملكة وتحد من قدرتها التصديرية للنفط مستقبلا هذا عدا عن الضرر البيئي المصاحب ويجب إيجاد حلول عاجلة لها. كما أنه لا شك أن التسعيرة ليست المسبب الوحيد لارتفاع الاستهلاك ولكنها أداة مهمة في تقنينه. ومن المهم العمل بالتوازي والاستمرار في بناء منظومة النقل والعمل، وتطوير سياسات الرفع من كفاءة استهلاك الطاقة شاملة أنظمة البناء واستيراد المركبات وغيرها.
في الختام
من المهم ختاما التأكيد والتذكير بأن التحول المقصود والمطلوب ليس فقط عملية انتقال من الوضع الراهن إلى الوضع المنشود بل أيضا تحقيق ذلك بشكل متسارع والاستفادة من أخطاء الماضي. الوقت لم يكن قط في صالحنا فاقتصادنا وموازنتنا معتمدان على سلعة ستنضب لا محالة. المأمول أنه بعد عقود قد نتذكر الأزمة الحالية لأسعار النفط على أنها نقطة التحول الكبرى التي قادت المملكة إلى تحقيق التنمية المستدامة.
* استشاري حكومي في التنمية الاقتصادية
[email protected]