مصر والسعودية .. قوة صامدة في مواجهة التحزبات السياسية

مصر والسعودية .. قوة صامدة في مواجهة التحزبات السياسية

"زيارة تاريخية" وصف دقيق لزيارة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز للقاهرة. إذا ما قيست حاضرا بفترتها الزمنية وبالوفد المرافق الأكبر عددا وتنوعا. فخمسة أيام في عرف الزيارات الرسمية بين بلدين تتجاوز البروتوكولات الموصوفة للعلاقات السياسية الاعتيادية. أما من جهة الماضي والعمق الحضاري فلا يمكن لأي مراقب تجاهل متانة هذه العلاقة التي لم تتمكن من النيل منها أي تحزبات يسارية اشتراكية أو يمينية إسلاموية، على مر تاريخ العلاقة. كما لا يمكن تجاهل نقاط الالتقاء والتشابه المثمر بين زيارة المؤسس التاريخية وزيارة الحزم سلمان. في رسالة سياسية وحضارية للعالم أجمع أعلنها الملك سلمان صراحة في كلمته أمس في قصر الاتحادية، فالأمة العربية مقبلة بهذه الشراكة السعودية المصرية، عسكريا واقتصاديا وحضاريا، على "عصر عربي جديد".

المحبة .. أولا
اعتنت الزيارة بالبعدين الثقافي والشعبي بين البلدين. ما يذكر بزيارة الملك المؤسس عبدالعزيز. إذ كانت مصر وجهته الخارجية الوحيدة 1946 واستغرقت 12 يوما، طغت على برنامجها العام تقوية أواصر المحبة والمودة والعلاقات الشعبية والثقافية رغم خروج العالم للتو، سياسيا وعسكريا، من أتون حرب عالمية ثانية. كانت كفيلة بتكثيف الأحاديث السياسية والعلاقات الدولية بين الطرفين.
وتوقيت زيارة الملك سلمان يأتي في ظروف محيطة شبهها كثير من السياسيين بـ "الحروب العالمية" من حيث النتائج المدمرة التي أحدثتها. ومع ذلك لم تهمل هذه الزيارة في برنامجها المعد سلفا البعد الثقافي للعلاقة بين البلدين. فكان الوفد الثقافي والإعلامي المرافق لخادم الحرمين على أعلى مستوى من التمثيل الثقافي والتحريري والفني. في إشارة إلى الجذور الشعبية والحضارية لهذه العلاقة السياسية بين البلدين.
وكما أن هناك إدراكا واضحا من قبل الضيف على عمق هذه العلاقة منذ الإعداد لهذه الزيارة من قبل مجلس التنسيق السعودي بقيادة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ورئيس وزراء مصر. وحتى تصريح الملك سلمان فور وصوله بأن "لمصر مكانة خاصة في نفسه". كذلك هو الحال مع المضيف الذي قدر حكوميا للمك سلمان مواقفه المشرفة مع دولة مصر. فضلا عن تقدير ثقافي وأكاديمي تمثل في تكريم خادم الحرمين بدكتوراه فخرية. نظير جهوده المعرفية والإنسانية من قبل جامعة القاهرة، التي يذكر لها إهداءها قبل 70 عاما كتبا فلسفية وأدبية قيمة من مؤلفاتها إلى الملك المؤسس عبدالعزيز خلال زيارته الخاصة للجامعة آنذاك، التي كان اسمها جامعة الملك فؤاد الأول، قبل أن يتغير إلى جامعة القاهرة كما تعرف اليوم.
وما بين إعجاب الملك المؤسس بجامعة القاهرة وتكريمها اليوم خادم الحرمين الملك سلمان عقود من التعليم والتعلم والمعرفة بين البلدين، إذ كانت مصر وجامعاتها وجهة الطلاب السعوديين الأولى. ومنها تخرجت قيادات سعودية إدارية وثقافية معروفة أثرت الوطن علميا وعمليا، دون أن تؤثر على هذه المسيرة الطويلة تباينات أو تجاذبات سياسية محيطة، لتكون القاعدة الصلبة الأساسية التي تحكم بناء العلاقة بين الدولتين معرفية ثقافية.

بناء مشترك
وبينما كان الملك فؤاد الأول يقود مسيرة التنوير المعرفي والتعليمي عبر بناء الجامعات ودفع النهضة الشاملة قدما في مصر. كان الملك عبدالعزيز بدوره يرسي أسس مملكة شاسعة تنبذ العصبيات والنزاعات القبلية تحت راية وطنية واحدة تحمل شعار التوحيد. وفي الوقت الذي تتحدث فيه بعض المصادر عن خطاب مطول سيلقيه الملك سلمان في مجلس النواب المصري، الممثل المباشر عن كافة شرائح المجتمع المصري، لا يمكن تاريخيا إغفال دور الملك عبدالعزيز ومشاركته فرحة مصر بإقامة أول برلمان لها 1924 في أعقاب استقلالها الذاتي 1922 مرسلا تهنئته إلى الملك فؤاد الأول، الذي رد عليه بإيفاد شيخ الأزهر ورئيس الديوان الملكي، تعبيرا عن كامل الامتنان. 
وعندما توفي الملك فؤاد الأول 1936 كان أول وفد عزاء بحسب المراجع التاريخية هو مبعوث الملك عبدالعزيز. ووضع الملك فاروق الأول الذي لم يتجاوز 16 عاما قضية المودة والأخوة مع المملكة العربية السعودية نصب عينيه، فأبرم معاهدة الصداقة وحسن الجوار بين البلدين، التي وضعت أسس التعاون والتنسيق القائم على التقدير فيما يتعلق بالتعاون في خدمة المشاعر المقدسة وحماية الرعايا واحترام استقلال كل دولة. وقد غطت الاتفاقية كافة مناحي الأنشطة التي تهم شعبي البلدين من جمارك وبريد وتعليم وملاحة ومحمل وجنسية، ولعل هذه الاتفاقية تثبت سمة التعامل بين بلدين جمعتهما المودة وربطهما الاحترام. ومع تعيين عبدالرحمن عزام وزيرا مفوضا لمصر في جدة والشيخ فوزان السابق وزيرا مفوضا للسعودية بدأ عهد جديد على درب الدبلوماسية ورعاية المصالح المباشرة.
وفي يوليو عام 1952 حدثت ثورة الجيش التي أنهت حكم الملك فاروق، ولأن الملك عبدالعزيز رأى ببصيرته أن مصر الدولة والشعب هي الأساس فقد وطد علاقته باللواء محمد نجيب قائد الثورة الذي سافر لأداء الحج واستقبله الملك عبدالعزيز، وأكد الطرفان أن المعاهدات والاتفاقيات كافة بل والأعراف غير المكتوبة التي سارت عليها العلاقات، ثابتة كما هي، يضاف إليها مزيد من التعاون في مجال التعليم، وفي عام 1953 انتقل الملك عبدالعزيز إلى الرفيق الأعلى، وبعد رحيله بشهور عزل اللواء محمد نجيب من منصبه، ليتولى الرئيس جمال عبدالناصر مسؤولية الحكم، وكان جلالة الملك سعود - طيب الله ثراه - قد تولى ملك بلاده وشرع منذ البدايات في توطيد علاقته بمصر، وأحدث إصلاحات كثيرة في مجال التعليم حيث أسس جامعة الملك سعود، وفتح باب التعاون مع مصر على مصراعيه في المجال التعليمي في المراحل كافة. وأرسل بعثات من شباب المملكة للدراسة في مصر، فضلا عن تيسير مهام الحجاج وتنظيم كثير من المرافق بخبرات مصرية.

هزات عنيفة
وفي عام 1958 تعرضت العلاقات المصرية السعودية - بحسب تقارير سياسية - لهزة كارثية تخللتها استقطابات عربية حزبية حادة، وارتطام شديد بين الشقيقتين في اليمن، وأدى ذلك إلى تخلخل النظام العربي بأكمله حتى وقعت هزيمة 1967 التي احتلت إسرائيل بسببها أراضي ثلاث دول عربية هي مصر وسورية والأردن. والمتأمل في أحداث الأعوام التسعة "1958-1967" يتأكد أنه إذا تعرضت العلاقات المصرية - السعودية إلى أدنى درجة من التصدع فإن النتيجة تكون خسارة وفقدا وضعفا للمنطقة، وعلى العكس، عندما قويت العلاقات في السبعينيات جاءت حرب 1973 دليلا على موقف عربي أكثر ترابطا. ومن ثم جاء الأداء أقوى وأعظم، حيث وقفت المملكة بثقلها وراء مصر وسورية، وتجمع العرب جميعا في صف واحد.
تولى الملك فيصل سدة الحكم في المملكة عام 1964 وكان الرئيس جمال عبدالناصر يمسك بزمام الأمور في مصر، وبعد هزيمة 1967 كان الموقف الذي لا ينسى في مؤتمر الخرطوم 1967 عندما تزعمت السعودية الصف العربي في دعم قوى المواجهة ماليا وسياسيا، وحدثت اللاءات الثلاث، ونهض العرب إلى وضع أفضل بعد المصالحة المصرية السعودية التي كانت دعامة راسخة لحرب الاستنزاف التي شنتها مصر وسورية لإضعاف إسرائيل، التي مهدت للنجاح الذي تحقق في حرب 1973، كما لا ينسي التاريخ للملك فيصل موقفه من قطع النفط عن الدول المعتدية ومن يدعمها. وكانت ورقة ضاغطة أضافت وقتئذ قوة وعافية إلى الموقف العربي.
في أيلول (سبتمبر) عام 1970 توفي الرئيس جمال عبدالناصر وخلفه الرئيس أنور السادات الذي حرص على فتح جسور التعاون والأخوة مع المملكة العربية السعودية، وتدفق آلاف المصريين للإسهام في النهضة الشاملة التي عاشتها المملكة العربية السعودية في المجالات كافة، ولا جدال في أن ذلك كان صيغة من صيغ المساعدات من المملكة إلى مصر ولونا من ألوان الترابط والمشاركة في البناء من مصر إلى المملكة، ما أوجد علاقة استراتيجية صلدة تغطي إلى جانب المجالات الاقتصادية المجالات الأخرى الاجتماعية والثقافية والإنسانية.

البقاء لـ «الاعتدال»
وكما زار المؤسس في زيارته التاريخية جامعة الأزهر، مثنيا على علمائها وتوجهاتها التاريخية في خدمة الإسلام والمسلمين، تشير الأنباء إلى زيارة مرتقبة للملك سلمان، في رسالة مباشرة تشيد بوسطية الأزهر واعتداله في محيط عربي وإسلامي يعج بالتطرف ودعوات المتطرفين، كما أنه من المقرر أن يلتقي الملك سلمان البابا تواضروس ممثلا عن مكون ديني له ثقله التاريخي والثقافي في مصر. وكل هذه الزيارات تأتي اعترافا من قيادة المملكة بالتنوع المذهبي والديني الذي تعيشه مصر، وأن هذا التعدد من صميم قوة مصر الثقافية وبنيتها الاجتماعية، ولا يتعارض مع علاقتها بأشقائها، بل يزيدها عمقا وقيمة.
وهذا الاحتفاء بمكونات الشعب المصري، على اختلاف أعراقه وثقافاته وأديانه، ومن قبلهم، بالزيارة التاريخية، يبدد بدوره - وفقا لمراقبين - كثيرا من التصورات السياسية المغرضة تجاه المملكة وميلها إلى حزب معين أو تبنيها قيادة محور مذهبي بعينه على غرار طهران وثورتها التي لا تحفل في كل بلد إلا بمكون واحد تجنيدا وعسكرة. لكن السعودية منذ زيارتي المؤسس حتى وصول "الضيف الكبير" كما وصفته الدولة المصرية، تعنى بمصر الإنسان تنمويا ونهضويا في استشعار واضح لوحدة الهدف والمصير المشترك ثنائيا وعربيا وإسلاميا.
إذ لطالما كانت مصر بثقافتها وأدبها وعلمائها وكتابها وفنانيها موضع اهتمام وزيارة من أدباء المملكة ومثقفيها، إما في معرض مناسبات حكومية تقرها المؤسسات الثقافية المعنية. أو زيارات خاصة ملؤها المودة والتثاقف المتبادل. فمنذ اللحظات الأولى لنشأة الثقافة والفكر في المملكة كان الأدباء السعوديون يراقبون ما يجري من وقائع أدبية في الصحف والمجلات المصرية، بل يشير كثير من النقاد إلى تأثر كثير من أدباء المملكة أسلوبيا بأسماء مصرية بارزة كمصطفى أمين، توفيق الحكيم، عباس محمود العقاد، طه حسين وغيرهم كثر. وحين ظهر الكتاب السعودي في أول نشأته كانت المطابع المصرية هي الحاضنة لذلك الكتاب‏،‏ حيث أسهم المثقفون المصريون الكبار في تقديم إبداع الأدباء السعوديين إلى العالم العربي، تماما كما نشهد اليوم إسهام دور نشر سعودية حققت نجاحات عربية ملموسة في نشر الكتاب والثقافة المصرية.
يبقى أن ما سبق وغيره كثير من الوقائع التاريخية والأنساق الثقافية للتعاطي بين القيادتين والشعبين، التي لا يمكن حصرها في مقال، كفيلة أن تؤكد حجم التقارب الشعبي والعلاقات المبنية على قاعدة ثقافية وشعبية صلبة لا تهزها أهواء السياسة وتقلبات الحزبيين، بل قد ينهلون ويتعلمون منها إذا ما لزم الأمر كثيرا من الثبات والعمق والإيمان بوحدة الكلمة والسبيل، ليس من أجل علاقة ثنائية مفردة، لكن من أجل أمة بأكملها، تبني آمالها ومستقبلها على قطبي العرب وجناحيه، مصر والسعودية.

الأكثر قراءة