«الرؤية المستقبلية» .. الصندوق السيادي السعودي
إحدى أهم ركائز الرؤية المستقبلية للمملكة تنويع مصادر الدخل، خاصة إيرادات الدولة من العملة الصعبة وذلك عن طريق تنويع الصادرات وجذب الاستثمار؛ وإنشاء صندوق سيادي ضخم ليكون الداعم الأكبر لتلك الجهود والمادة الاقتصادية المحرّكة. وإلى وقت قريب كان الكثير يعتقد أن فرصة إنشاء صندوق سيادي قد فاتت على السعودية. وأن الهبوط الأخير في أسعار البترول قد حسم الأمر. وبدا كأن مستقبل الاقتصاد السعودي مرهون بما يحدث في أسواق النفط، وأن الخيارات الأخرى أمام المملكة محدودة.
ولكن عندما تتوافر العزيمة تتهيأ الحلول. وما كان بالإمكان أن يتحقق خلال سنوات الفوائض المالية الذي قدر بنحو 1.8 تريليون دولار حسب الدراسة الأخيرة التي نشرتها جامعة هارفارد http://belfercenter.ksg.harvard.edu/files/Saudi.pdf نرى أنه يتحقق الآن بحول الله وقوته من خلال صندوق سيادي سعودي يصل مجموع أصوله خلال السنوات القليلة المقبلة إلى أكثر من تريليوني دولار. ومن المتوقع أن يتفرع من هذا الصندوق الضخم صندوق للادخار Savings Fund أو Sovereign Wealth Fund مماثل لجهاز أبو ظبي للاستثمار وهيئة الاستثمار في الكويت وصندوق النرويج وذلك لدعم إيرادات الدولة؛ إضافة إلى صندوق تنموي استراتيجي يدعم عملية تنويع الاقتصاد ونقل التكنولوجيا Sovereign Development&Strategic Fund مثل صندوق تماسك المعروف في سنغافورة وخزانة في ماليزيا ومبادلة في الإمارات. وأكبر حجما بكثير من تلك الصناديق.
يتم ذلك عن طريق ضبط الإنفاق العام وتطوير آلية العمل في وزارة المالية وصندوق الاستثمارات العامة. ثم تأتي الحلول المبتكرة بإعادة توزيع وضبط الأصول المالية للدولة. أكبر تلك الأصول شركة أرامكو التي سيطرح نحو 5 في المائة من أصولها للاكتتاب العام لأجل تطويرها بما يتواكب مع الرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي ولتحقيق المطلوب نحو رفع أصول الصندوق السيادي السعودي إلى المستوى المطلوب لدعم الاستقرار المالي للمملكة وتنويع الاقتصاد.
هذه الجهود الضخمة تعتبر إنجازا كبيرا لحكومة المملكة في مواجهة التحديات المستقبلية ومتطلبات الأمن الاقتصادي للمملكة. فاعتماد المملكة على دخل البترول دون تنويع الاقتصاد يتطلب أن تستمر أسعار البترول في الارتفاع إلى مستويات قياسية خلال السنوات والعقود القادمة لتلبية احتياجات الدولة. وهذا ما لا يمكن تحقيقه. ولذا فالحاجة ماسة لتطوير الاقتصاد السعودي وتنويع مصادر الدخل بشكل كبير بالذات إيرادات الدولة من العملة الصعبة. ومن هنا تأتي أهمية النظر إلى تلك الحلول المبتكرة في إطارها الصحيح.
من المفاهيم الخاطئة أن طرح جزء من شركة أرامكو للاكتتاب العام يعني بيع جزء من احتياطيات البترول تحت الأرض. وهذا غير صحيح. طرح الاكتتاب هو لشركة أرامكو صاحبة الامتياز الخاص باستخراج البترول وجميع نشاطات التطوير والتسويق وليس طرحا للاكتتاب في احتياطيات المملكة من البترول. شركة أرامكو لديها امتيازات من الحكومة ولكنها كشركة لا تمتلك أي من احتياطيات المملكة من البترول.
ولو تم تقييم احتياطيات المملكة من البترول لبلغت القيمة أكثر من عشرة تريليونات دولار في حين أن تقييم شركة أرامكو في حد ذاتها لا يتعدى 20 في المائة من قيمة الاحتياطيات. ملكية الدولة 100 في المائة لتلك الاحتياطيات لا تتغير عند طرح أي نسبة من شركة أرامكو للاكتتاب.
المتغير هنا هو قيمة شركة أرامكو عند الطرح التي تعتمد على نسبة الضريبة أو الرسوم التي تفرضها الدولة على دخل "أرامكو" من بيع البترول وغيره من المنتجات. فكلما تغيرت تلك النسبة عن 70 ــ 80 في المائة المعمول بها في كثير من شركات البترول الحكومية، تتغير بناء عليها قيمة الشركة. أي أن الحكومة ممثلة بوزارة المالية ستستمر في الحصول على إيرادات الدولة من البترول بنسبة كبيرة على كامل الإنتاج. والنسبة الموزعة على ملاك الشركة كأرباح Dividend هي أحد مصادر التمويل السنوي لبناء الصندوق السيادي السعودي. وهذا مماثل بطريقة مبتكرة لما هو معمول به في جميع الصناديق السيادية العالمية المعروفة Savings rule. أي اقتطاع جزء من دخل البترول للأجيال القادمة وبناء مصدر آخر للدخل.
ومن المصادر الأخرى المهمة لتمويل الصندوق السيادي تحويل الفوائض من الاحتياطيات المالية لدى مؤسسة النقد. أي تلك الاحتياطيات التي تزيد على ما هو مطلوب لعمل البنك المركزي Income Stabilization. يمكن تحويل تلك المبالغ، أو ما يعادلها من أصول خارجية مستثمرة، مباشرة إلى الصندوق السيادي؛ أو السحب من تلك الفوائض بطريقة غير مباشرة عن طريق تنويع بعض أصول صندوق الاستثمارات العامة من العملة المحلية إلى استثمارات خارجية.
وفي كلتا الحالتين يتطلب الأمر ضبط الإنفاق العام وتقنينه Fiscal Rule للمحافظة على المستويات المطلوبة لاحتياطيات البنك المركزي. ولذا فإن ضبط السياسة المالية يعتبر شرطا أساسيا Prerequisite لنجاح عملية إنشاء الصندوق السيادي وتحقيق الأهداف المطلوبة في تنويع الاقتصاد.
ومن أهم عوامل ضبط الإنفاق العام العمل على زيادة فاعلية وإنتاجية المصروفات الحكومية Productivity. أي أنه بالإمكان توفير كثير من الخدمات الحكومية بمبالغ أقل ليس نتيجة فقط لخفض الاعتمادات ولكن عن طريق تطوير أساليب وعمل تقديم تلك الخدمات. وهذا علم في حد ذاته نجح في تطبيقه كثير من الدول. وهو من الأمور المهمة التي أشير إليها في برنامج الرؤية المستقبلية للمملكة.
من المتوقع أن تعلن كثير من تفاصيل الرؤية المستقبلية للمملكة خلال الأسابيع المقبلة. وستكون عملية التطبيق والضوابط والحوكمة المطلوبة Governance؛ ووجود الخبرات المتميزة سواء الوطنية أو الأجنبية أساسا لنجاح وسرعة إنشاء الصندوق السيادي السعودي. وبالتالي تحقيق الأهداف الكبرى للرؤية المستقبلية للمملكة.